تاسعا: إقامة الحدود فيها

واتخاذها موضعا لسماع القضايا والخصومات التي تقع بين المتنازعين، حيث إنه ولا بد سيحصل ضجيج وأصوات عالية، وكلمات نابية، فإن كلا من الخصمين عادة يعيب الآخر ويثلبه، ويذكره بأقبح الصفات من الكذب، والافتراء، والظلم، والعدوان، ويقابله الآخر بمثل ذلك أو أشد، فيلزم من ذلك عادة امتهان المساجد بذكرهم هذه الصفات الذميمة المبنية على المبالغة أو الظن الخاطئ، وذلك مما ينافي كرامة المسجد ومكانته في النفوس، وهكذا ما يحصل عند إقامة الحدود في المسجد من احتشاد الخلق هناك لمجرد الفرجة والنظر، ويكون من بينهم السفهاء والأطفال، وأهل الجهل والفساد، فيحصل ازدحام ورفع أصوات، وارتكاب مفاسد وأخطاء تنافي شرف المسجد ومكانته في النفوس، ويحصل تشويش على من يصلي أو يقرأ أو يتعبد، وسواء كانت الحدود قتلا أو رجما، أو جلدا أو قطع طرف أو نحو ذلك. وقد ورد النهي عن إقامة الحدود في حديث واثلة عند ابن ماجه وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة ومعاذ عند الطبراني وإن كانت ضعيفة كما سبق، ولكن يقوي بعضها بعضا، مما يدل على أن لها أصلا، لكن قد ورد ذكر الرجم في المصلى كما في البخاري وغيره هو في صحيح البخاري برقم 5270، 6820. ومسلم برقم 1691 (16). . والمراد به: الموضع الذي في البقيع يصلى فيه على الجنائز، والمعنى أن إقامة الحد عليه كانت قريبا من ذلك المصلى، ولم يكن محوطا، وليس فيه علامة المسجد. وهكذا ما في الحديث أن ذلك الرجل اعترف بالزنا في المسجد، وكرر اعترافه، وأمر برجمه هو في الحديث المذكور عن أبي هريرة وجابر، وفيه أنه كرر الاعتراف أربع مرات. إنما فيه الحكم عليه في المسجد، وقد ورد عن بعض السلف أنهم حكموا بين الخصمين في المسجد. قال البخاري في كتاب الأحكام من صحيحه (باب من قضى ولاعن في المسجد) ولاعن عمر عند منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان باليمين على زيد بن ثابت عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد هكذا في فتح الباري 13\ 154. ثم روى حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد هو في صحيح البخاري برقم 7166، ورواه قبل ذلك برقم 423. . وذكر الحافظ في الفتح أن أثر شريح وصله ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت شريحا يقضي في المسجد وعليه برنس خز رواه ابن سعد في الطبقات 6\ 0 بإسناده عن إسماعيل وابن أبي شيبة في المصنف 6\ 513 برقم 1874 لكنه من إضافة المحقق نقلا عن فتح الباري. . وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة أنه رأى شريحا يقضى في المسجد هو في مصنف عبد الرزاق برقم 1731، وزاد: ورأيت أنا ابن أبي ليلى يقضي في المسجد. . وأثر الشعبي وصله سعيد المخزومي في جامع سفيان من طريق عبد الله بن شبرمة رأيت الشعبي جلد يهوديا في قرية في المسجد. وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان رواه عبد الرزاق في المصنف برقم 1704. . وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس قال: رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3\ 516 برقم 1874. . وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من طريق أبي الزناد قال: كان سعد بن إبراهيم وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابنه، ومحمد بن صفوان ومحمد بن مصعب بن شرحبيل يقضون في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر ذلك جماعة آخرون كذا نقل ذلك الحافظ في الفتح 13\ 155. . ثم ذكر أن الرحبة بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، والراجح أن لها حكم المسجد فيصح فيها الاعتكاف، وكل ما يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد. والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق المثنى بن سعيد قال: رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد في مصنف ابن أبي شيبة 6\ 513 حدثنا ابن مهدى عن المثنى عن سعيد قال: رأيت الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارج المسجد. . وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلوا ركعتين قبل أن يجلسوا نقله الحافظ في الفتح 13\ 155 عنه. . ثم نقل الحافظ عن ابن بطال قال: استحب القضاء في المسجد طائفة، وقال مالك هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس، لإمكان الاحتجاب، قال: وبه قال أحمد وإسحاق وكره ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد، فإنه يأتيك الحائض والمشرك روى ابن أبي شيبة 6\ 512 برقم 1871 عن حصين قال: كتب عمر بن عبد العزيز: لا يقعدن قاض في المسجد، يدخل عليه فيه المشركون فإنهم نجس قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . وقال الشافعي أحب إلى أن يقضى في غير المسجد لذلك هكذا نقله الحافظ في الفتح 13\ 155. . وقال الكرابيسي "كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك، فيدخل المسلم المسجد، ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره" اهـ. وقد علم أن القضاء في ذلك الزمان هو مجرد سماع قول الخصمين، ثم الفصل بينهما بكلمة أو كلمتين، وتنتهي القضية بدون مجادلات، ورفع أصوات، وتسجيل توقيعات، كما في هذه الأزمنة، وقد يكون سبب حكمهم في المسجد عدم توفر بناء خاص بالمحاكم، حيث إن القاضي يجلس في بيته، وقد يضيق بالخصوم المنزل، فيحتاج إلى الجلوس في المسجد، وقد يكون العذر هو تمكن المرأة والضعيف من الوصول إليه للإدلاء بالحجة، وسماع الدعوى، وتحذير الكاذب من امتهان المسجد بالحلف الفاجر. وأما في هذه الأزمنة وبالأخص هذه المملكة فقد خصص للقضاة محاكم مهيأة للجلوس فيها، وإحضار الخصومة، وتيسر للمظلوم والضعيف الوصول إلى القاضي، وعلى هذا تنزه المساجد عن هذه المرافعات، والجدال والنزاع، حتى يعرف للمساجد مكانتها وشرفها.