تمهيد

مما يعلم ببداهة العقول تفاوت الناس في العلم بالشيء قوة وضعفا ، بحسب تفاوتهم في الإقبال عليه والاشتغال به . ولما كان أهل الحديث مكبين على طلبه وقد أفنوا أعمارهم في تعلمه وتعليمه ، وتتبع رواياته، والمقارنة بينها، وسبر موافقة الرواة بعضهم بعضا ، وتواردهم على الحديث الطويل بسياق واحد أو متقارب، مع تنائي الديار وتفاوت الآراء، فلا جرم عرفوا من أثر هذا التتبع رواية الموثوق المقبول من ضده، وحصل لهم العلم اليقيني بالكثير من الآحاد التي تمت فيها شروط القبول؛ ومن المعلوم أيضا بداهة وجود التفاوت العظيم بين نقلة الأخبار، ورواة الحديث، مما سبب الجزم لأول مرة بصدق الخبر الذي نقله من عرف بالصدق والأمانة، والصلابة في الدين، واشتهر عنه الحفظ والفهم بأدائه للخبر كما هو في كل وقت، مع التثبت والاحتياط الذي يحجزه عن التحديث بما لا صحة له، أو بما يتوقف في ثبوته كما هو حال الأئمة المشهورين من الصحابة ومن تبعهم . وهكذا الحكم برد الخبر عندما يعرف ناقله بتعمد الكذب، أو خفة الديانة أو يعلم منه سوء الحفظ، أو مخالفة الثقات، أو نحو ذلك من القرائن والأمارات التي برع فيها أئمة هذا الشأن. وحينئذ فمن الخطأ إطلاق القول بأن خبر الواحد يفيد العلم أو الظن والصواب أن يحكم على كل خبر بما يليق به من ظن أو يقين، مما قد تكفل به جهابذة العلماء من صدر هذه الأمة، حيث تتبعوا كل حديث مرفوع يدور على الألسنة أو يوجد في دواوين السنة ، فبينوا درجته، وحكموا عليه بما يستحقه من جزم أو تردد أو ظن غالب. ولم يجعلوا مستندهم دائما عدالة الراوي أو ضعفه فقط ، بل أضافوا إلى ذلك ما يتصل بالخبر من قرائن تقوي أحد الاحتمالين.