مستند من قال إن الآحاد لا تفيد إلا الظن

     تتابع الأصوليون غالبا في مؤلفاتهم على اختيار أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولو بقرينة، وإنما يجوز العمل به وإن كان ظني الثبوت، لجواز العمل بما يفيد الظن.      وأعتقد أن عدم حصول العلم لهم من هذه الأخبار بسبب أن جل اشتغالهم بعلم الكلام ونحوه، وهم في الجملة بمعزل عن علم الحديث وطرقه ورجاله.      وقد انخدع بكثرتهم وتهافتهم على هذا القول كثير من أهل الحديث المتأخرين، كما فعل النووي في التقريب انظر التقريب وشرحه تدريب الراوي 1/132، وقد خالفه السيوطي في الشرح ورجح ما اختاره ابن الصلاح وغيره من المحققين من أنه يفيد العلم. وشرح مقدمة مسلم انظر شرح صحيح مسلم 1/20، حيث نقل كلام ابن الصلاح من مواضع، ثم تعقبه بأنه خلاف ما قاله المحققون. وكذا ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول انظر جامع الأصول 1/125، حيث جزمه بأنه لا يفيد العلم. الذي نقل عبارة الغزالي بالحرف.      ومن العجيب تأويل الغزالي لقول من ذهب إلى أنها تفيد العلم بأحد أمرين: 1- أنهم أرادوا إفادتها للعلم بوجوب العمل . 2- أن العلم بمعنى الظن ذكره في المستصفى 1/88. .       ثم  حكى أن بعضهم فسَّره بالعلم الظاهر، لقوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } ورد هذا التفسير.      وكأنه لما استحكم في قلبه كونها ظنية اعتقد ذلك حجة مسلمة من كل ذي عقل، واستبعد أن يخالفه فيها أحد.      ولما كان هذا القول مشهورا عن السلف أراد أن يصرفه عن ظاهره، حتى لا يبقى عالم معتبر يخالف ما قاله، فأوله إما بجعل العلم مرادا به غير ما نحن فيه ، وأنه العلم بوجوب قبول هذه الأخبار، والعمل بما تتضمنه، وإما بأن العلم مراد به الظن الذي يقول به جمهورهم.      ويتضح أنه لم يقرأ عبارات المحدثين والأئمة في تصريحهم بالعلم اليقيني ، واستدلالهم عليه بما هو معلوم من الأدلة الشرعية والعقلية كما تقدم ، مما لا يحتملها التأويل الذي قاله ، ولا أنهم أرادوا العلم الظاهر ، كما نقله ورده، ولهذا لما نقل ابن الهمام في التحرير تأويله الأول رده بتصريح ابن الصلاح بالقطع بمروي الشيخين كما في التحرير ص 133. فأما قول الآمدي كما في الأحكام 2/32. أن فيهم من قال يفيد العلم بمعنى الظن، واستدلوا بقوله تعالى: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } أي ظنتموهن، فهذا قول لا حقيقة له ، وإن وجد من يقوله ، فلا فرق بينه وبين قول الأكثرين منهم، بأنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقا ، فإنهم لم ينفوا إفادته للظن.      وقد علمت أن هذا أحد التأويلين اللذين سلكهما الغزالي في صرف القول الأول عن ظاهره، ولو كان يعلمه قولا لأحد لحكاه، ولم يجعله احتمالا ، وعلمت أيضا أن الغزالي ذكر الآية في دليل من قال: المراد العلم الظاهر، لا العلم بمعنى الظن، ولما كان أهل الأصول قد وضعوا لهم قواعد كلية، حكموا بموجبها على كل خبر بحكم موافق لتلك القواعد التي لم يكن مستندهم فيها إلا أدلة عقلية، بزعمهم يقينية، وهي وهمية، جعلوها مطردة، فحكموا لأجلها بأن مفاد أخبار الآحاد الظن، ثم إنهم تناقضوا بعد ذلك بإيجابهم العمل بها، لما رأوا أدلة وجوب العمل متواترة، وقبول السلف لها مشهورا ، ورأوا هذا مطردا بين المسلمين سلفا وخلفا ، فلم يجدوا بدا من القول بأنها توجب العمل، مما هو هدم لقواعدهم من الأساس.