إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
81490 مشاهدة
من الأدلة ما يكون يوم القيامة عند البعث يحشرون حفاةً عراةً غرلا بهما

ولما رأى النار فقال : إني آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( القصص:29 ) فلما جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ( النمل:8 ) يعني: سمع نداء الله أن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ( القصص:30-31 ) هل تقول الشجرة هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( طه:12-14 ) يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ ( النمل:9-10 ) ؟! هذا كلام لا يقوله إلا الرب سبحانه الذي ناداه.
وقوله: وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. شرح: يكفينا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في كتاب التوحيد في باب قوله تعالى: حتى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ( سبأ:23 ) حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة شديدة- خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سُجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله - وهذا صريح في أنه يكلمه الله من وحيه بما يشاء- فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله . وفي هذا دليل واضح على أن موسى وجبريل - عليهما السلام - كلا منهما سمع كلام الله، ولا بد أن يكون المسموع مفهوما لكل من سمعه.
وقوله: وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غُرلا بهما ، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان رواه الأئمة واستشهد به البخاري
شرح: وهذا أيضا من الأدلة؛ وهو مما يكون في يوم القيامة، عندما يبعثون من قبورهم يحشرون حفاةً عراةً غرلا بهما - كما في بعض الروايات - ( حفاة ) أي: غير منتعلين؛ ليس عليهم أحذية ، ( عراة ) أي: ليس عليهم أكسية؛ عراة الأجساد، ( غرلاً ) أي: الرجال منهم غير مختَّنين؛ أي: أنهم كما بدأ خلقهم، وكما خرجوا إلى الدنيا يكون خلقهم كاملاً، يعود إليهم ما أزيل عنهم من تلك القُلْفة التي تقطع من مذاكيرهم في الصغر، فيكونون غرلاً.
( بُهْمًا ) قيل: إن معناه أنهم يغلب عليهم السواد من شدة الحر ومن العرق ونحوه، البُهْم: هو السواد، ومنه الكلب البهيم، وقيل: إن معناه أنهم لا يتكلمون كالبهائم، ولهذا قال في آية أخرى: فلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ( طه:108 ) يعني: أنهم شاخصة أبصارهم كما في قوله تعالى مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ( إبراهيم: 43 )  وقد ذكر في هذا الحديث أنهم إذا حُشروا يسمعون نداء الله تعالى، ينادي بنداء يسمعه من قّرُب كما يسمعه من بَعُد، يخبرهم بأنه ربهم ، وبأنه سوف يحاسبهم، وقد ورد في حديث آخر : فينادي آدم بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار . فهذا ونحوه دليل واضح على أن كلام الله تعالى مسموع، يسمعه من بَعُد ويسمعه من قَرُب. وقوله: وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار؛ فهالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى ؛ فأجاب سريعًا استئناسًا بالصوت ، فقال: لبيك لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك -فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى- قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك ؟ قال: بل كلامي يا موسى شرح: هذا من الآثار الإسرائيلية التي تروى للاستئناس لا للاستدلال بها ، وقد قال عليه السلام : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: ' آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم' ( العنكبوت:46 ) الآية وكذلك قال صلى الله عليه  وسلم : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... الحديث فهذا الأثر فيه: أن موسى لما أتى إلى الشجرة ناداه مناد، فقال: لبيك ... -إلى -. فعند ذلك سأل: أكلامك أسمع أم كلام رسولك ؟ قال: بل كلامي يا موسى .
وأما قوله: ( أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك.. ) فإنه يذكره بقربه، يعني: إني قريب منك، وإني أراك، وأنك لا تخفى عليّ. ولا ينافي ذلك صفة العلو والفوقية، حيث إنه أراد بذلك القرب والمعية، وعدم الغيبوبة عنه، أي: أنا عندك، وأنا قريب منك ولا يخفى علي من أمرك شيء، وبكل حال فهذا دليل على أن الله تعالى تكلم، وأنه أسمع كلامه لمن شاء، ومنهم موسى ‎عليه السلام.