الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الأول
38875 مشاهدة
26- إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

[وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: 23]. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]. وقوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35]. وهذا الباب في كتاب الله كثير، من تدبر القرآن طالبا للهدى منه؛ تبين له طريق الحق] .


الشرح
هذه الآيات استدل بها المؤلف -رحمه الله- على مسألة النظر إلى الله، أي: النظر إلى وجه الله، ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وقد دل على هذه المسألة الكتاب والسنة، واتفق عليها سلف الأمة وأئمتها، وأنكرتها المعتزلة والجهمية ونحوهم، وبالغوا في إنكارها.
والأدلة من القرآن، منها ما هو صريح، ومنها ما هو مستنبط.
*الآية الأولى: من سورة القيامة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ناضرة بالضاد من النضارة وهي البهاء، يعني: بهية مشرقة، والثانية ناظرة بالظاء: من النظر وهو المعاينة، وأضاف أن النظر إلى الله، فقال: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ظاهرها أنها تنظر إلى الله تعالى معاينة، عبر بالوجوه؛ لأنها محل النظر، فالنظر مركب في الوجه، كذلك قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ولم يقل: عيون؛ لأن بالنظر تشرق تلك الوجوه، كما فسرت ذلك السنة.
وهذه الآية من أوضح الأدلة ولكن المعتزلة لم يجدوا بدا من تسليط التأويلات عليها، فقال بعضهم: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: إلى ثواب ربها، وإلى عطاء ربها فجعلوا مقدرا، وهو خلاف الأصل، فالأصل أنها لا تحتاج إلى تقدير، لا تحتاج إلى شيء خفي، وهذا كما فعلوا في قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ قالوا: المعنى وجاء أمر ربك، وكما فعلوا في قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]. قالوا: من في السماء أمره، وهكذا فعلوا هنا في قوله إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قالوا: ثواب ربها ناظرة، أو إلى نعيمه وجنته، وهذا الإضمار خلاف الأصل.
وتأول آخرون حرف الجر بأنه اسم لا حرف، وأنه مفرد الآلاء؟ فقالوا: إِلَى رَبِّهَا يعني: آلاء ربها، ناظرة، وهذا أيضا بعيد كل البعد عن مفهوم القرآن، فالقرآن صريح في أن المراد النظر إلى ربها، ولأن الإلى لم يرد بالمفرد لما فيه من الإيهام، وإنما ذكره الله بالجمع في قوله: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [النجم: 55]. وفي قوله: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13]. ولم يقل: بإلى ربك أو بإلى ربكم، عرفنا من ذلك أن تأويلاتهم باطلة، وأن الأولى إجراؤها على ظاهرها.
* الآية الثانية: قوله تعالى: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: 23]. كما في سورة المطففين، الأرائك: جمع أريكة، وهي ما يتكأ عليه، يعني: أنهم متكئون فيها على الأرائك، ينظرون.
فسر هذا النظر بأنه النظر إلى الله تعالى، فظاهر النظر في الآية أنه النظر إلى الله، وإن كانت محتملة أن المراد النظر إلى ما أعطوا من النعيم والثواب.
*الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة يونس: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس: 26]. ورد تفسير الزيادة مرفوعا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه النظر إلى وجه الله، كذلك فسره الصحابة كأبي بكر وغيره من الصحابة الأجلاء قالوا: للذين أحسنوا الحسنى: الجنة، وزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى وإذا نظروا إلى وجه الله فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، يعني: لا يصيبهم من النظر قتر وهو الغبرة والتغير، وَلَا ذِلَّةٌ أي: مهانة.
بل الأمر بعكس ذلك، تشرق وجوههم وتستنير بالنظر إلى الله.
*أما الآية الرابعة: وهو قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35]. كما في سورة ق، قد فسر المزيد بالنظر إلى وجه الله، وفسرها بذلك جمع من السلف، وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ أي: نزيدهم بشيء لم يخطر على بالهم وهو النظر إلى وجه الله تعالى.
هذه آيات أربع استدل المؤلف بها هنا.
وهناك أيضا آيات أخرى منها قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]. هذه من أوضح الأدلة؛ لأن الله ذكر أن الكفار محجوبون عن ربهم، فدل على أن المؤمنين لا يحجبون، فلو لم ينظروا إليه لكانوا أيضا محجوبين عن ربهم مثل الكفار، فلا يكون هناك فرق، استنبط الدلالة من هذه الآية الإمام الشافعي وبعده الأئمة، قالوا: كيف يكون الكفار محجوبين عن الله، وكذلك المؤمنون؟ إذن لم يكن هناك فرق.
قالوا: لما حجب هؤلاء في الغضب، دل على أن المؤمنين لا يحجبون عنه في الرضا.
ومن الأدلة أيضا أن بعضهم قرأ قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان: 20]. قرأها (وَمَلِكا كبيرا)، وقال: الملك: هو الله أي: أن المؤمنين ينظرون إلى الله تعالى؛ حيث ذكر نفسه بالملك وبالكبر.
أما المعتزلة فاستدلوا على نفي الرؤية بالآية الكريمة التي في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103]. قالوا: الأبصار هي الأعين، قد أخبر الله بأنها لا تدركه، فجعلوا ذلك دليلا على أنها لا تراه، ولكن أهل السنة فسروا الإدراك بأنه الإحاطة، واستدلوا بهذه الآية على إثبات الرؤية لا على نفيها، فقالوا: يراه المؤمنون في الجنة بأبصارهم، ولكن الأبصار عندما تراه فإنها لا تحيط به، لا تدركه الأبصار إذا رأته، فدل على أنه يرى روية بلا إحاطة، أي: لا تحيط به إذا رأته، ففيها إثبات الرؤية، ونفي الإدراك الذي هو الإحاطة، فأصبحت الآية دليلا عليهم، لا دليلا لهم، فأصبحت مثبتة للرؤية؛ لأن فيها نفي الإدراك، فدل على أن هناك رؤية بلا إدراك، واستدل المعتزلة على نفي الرؤية بقوله تعالى لموسى في سورة الأعراف: لَنْ تَرَانِي فقالوا: إن موسى طلب الرؤية بقوله: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143]. فقال: لَنْ تَرَانِي فاستدلوا بقوله: لَنْ تَرَانِي على أن الله لا يرى، وقالوا: إن لن للنفي المؤبد، فدل على أنه لا يرى، ولكن الآية دليل عليهم لا لهم، فإن موسى -عليه السلام- أعلم بربه من المعتزلة، فلا يمكن أن يسأل شيئا مستحيلا، وأيضا فإن الله ما أنكر على موسى لما طلب الرؤية، كما أنكر على نوح لما طلب نجاة ابنه، وقال له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46]. ولم ينكر على موسى بل قال: لَنْ تَرَانِي ولم يقل إني لا أرى، إني لست بمرئي، إني لا تجوز رؤيتي، إني لا تمكن رؤيتي، فدل على أن الرؤية ممكنة، وقوله: لَنْ تَرَانِي هو يعني: لا تقدر على رؤيتي، ثم إن لن لا تفيد النفي المؤبد.
يقول ابن مالك في الألفية:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا

إذن استعمال لن يكون للنفي غير المؤبد، فقوله: لَنْ تَرَانِي يعني: في هذه الحياة، وذلك بموجب بنية البشر، فالبشر في هذه الحياة ضعيف لا يقدر على المثول أمام جلال الله وكبريائه، ثم يدل على ذلك أن الله تعالى قال: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فعلق رؤيته على استقرار الجبل، واستقرار الجبل ممكن، وقد علقت عليها الرؤية، وهي عند المعتزلة مستحيل، والله قد علقها على ممكن، والمعلق على ممكن ممكن.
ويدل على ذلك أن الله تجلى للجبل، وإذا جاز أن يتجلى للجبل، فبطريق الأولى يتجلى لعباده يوم القيامة، والمعتزلة تنكر تجليه للجبل؛ لأنهم لا يعترفون بأن الله يرى، ولا أنه يتمثل أمام شيء من مخلوقاته.
عرفنا بذلك أن هذه الآيات التي استدلوا بها دليل عليهم لا لهم، إذن هذه الآيات فيها إثبات الرؤية، وسيأتينا في الأحاديث أيضا حديث جرير الذي فيه: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر .
هذه هي الآيات التي أوردها المؤلف مشتملة على جملة من الصفات، ولكنه -رحمه الله- لم يستوف جميع الآيات؛ لأن ذلك سيخرج به عما أراده من تأليف هذه العقيدة المختصرة.
* وكذلك قال بعد ما أورد هذه الآيات: وهذا الباب في كتاب الله كثير.
يعني: إنما ذكرنا أنموذجا، ولم نستقص.
* ثم قال: ومن تدبر القرآن طالبا للهدى تبين له طريق الحق، فعليك أن تتدبر القرآن، وإذا تدبرته وأنت تريد طلب الهدى وطلب الدليل الصحيح، فإنه يتبين لك طريق الصواب، خصوصا إذا حسنت نيتك، وأردت بذلك إظهار الحق لا المجادلة بالباطل.