لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه. إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه
تفسير سورة الحجرات من تفسير ابن كثير
12527 مشاهدة
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

اقرأ آخر السورة. الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، نحمده سبحانه تعظيما لشانه، وأصلي وأسلم على الحبيب الداعي إلى رضوانه نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- اللهم تسليما كثيرا اللهم اسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم احشرنا في لوائه.
أحبتي في الله وهذا آخر موعد لدرس التفسير مع فضيلة الشيخ الوالد عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين نسأل الله أن يعلي منزلته وأن يغفر لنا وله، ونحن على أمل بإذن الله عز وجل أن تتكرر هذه الزيارة من الشيخ فنحن على لهف للجلوس معه وسماع الفوائد التي سبر غورها، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ .


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآية الأولى من هذا المقطع من بقية الآداب وما بعدها يتعلق بالاعتقاد أدب الله- تعالى- المؤمنين وعلمهم الأخوة فيما بينهم في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وفي تعليمه لهم عدم السخرية وعدم اللمز وعدم التنابز بالألقاب، وعدم العمل بالظن أو بكل الظنون، والنهي عن التجسس والنهي عن الغيبة، بعد ذلك نهاهم عن التفاخر عن الفخر بالآباء والأجداد ونحو ذلك.
في ضمن هذه الآية خاطب الله- تعالى- فيها الناس كلهم ما خص الخطاب كما في الآيتين قبلها بالمؤمنين؛ وذلك ليدخل فيها المؤمن والكافر.
فيتبين لكل أحد أنه لا فخر إلا بالتقوى، وأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بتقوى الله تعالى.
ففي هذه الآية يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى قيل: إن المراد خلقهم من أصل واحد من آدم وزوجته، أي أن أصلكم كلكم يرجع إلى أصل وأب واحد؛ ولهذا يناديهم يا بني آدم في قوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ وفي قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ؛ ليدخل فيه جميع البشر.
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى أي من رجل خلق من تراب وهو آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خلق زوجته منه وإذا كان الأصل واحدا فلا فخر، لا فخر بالحسب ولا بالنسب ولا بغير ذلك، إنما الفخر بالتقوى؛ ولهذا قال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وردت أحاديث في النهي عن مثل هذا الفخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجُعل وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- ببقاء هذا الفخر في أمته في قوله صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة فجعل من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب وجعل منها الطعن في الأنساب.
لا شك أن ذكر الجاهلية يعد تنفيرا من هذه الخصال.
ومنها: الفخر؛ فالتفاخر بأفعال الآباء والأجداد لا يفيد، لا يفيد الإنسان إنما يفيده فعله وعمله هو؛ ولهذا يوبخ من يفتخر بآبائه يقول بعضهم:
كن ابن مـن شئت واكتسـب أدبـا
يغنيـك محـموده عـن النسـب
أي إذا اكتسبت أدبا واكتسبت علما أغناك عن أن تقول أنا ابن فلان أو آبائي فيهم كذا وكذا فلا فخر إلا بالتقوى، ثم لا شك أن الآباء إذا كان لهم شرف فينتسب إليهم ويدعوا لهم وله أن يذكرهم ذكرا حسنا، ولهذا ورد أي في حديث أبي سفيان أول ما سأله هرقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال كيف نسبه فيكم؟
فقال: هو فينا ذو نسب، يعني أنه من أصل شريف وذلك ليكون له رفعة في قومه وإن كان لا ينفعه في الأصل أو في الآخرة إلا فعله.
ولما أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالدوافع للنكاح قال: تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك المراد بالحسب شهرة النسب شهرة الآباء والأجداد وأفعالهم ونحو ذلك.
وهذا مما يتفاخر به بعض من يتقدم إلى قوم ليخطب منهم ولكن قد يُفسدها حسبها وشرفها، وكذلك الرجل فعلى هذا يقول الله:
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا يعني أن الله- تعالى- جعلهم قبائل قبيلة آل فلان قبيلة تميم وقبيلة أسد وقبيلة خزيمة وقبيلة مضر وقبيلة ربيعة وهكذا لماذا؛ لأجل التعارف لا لأجل التفاخر، أن يُعرف هذا الإنسان فيقال مثلا: هذا من ربيعة، وهذا من مُضر، وهذا من أسد، وهذا من تميم وهذا من غسان.
العرب العاربة والعرب المستعربة هم الذين احتفظوا بأنسابهم فمنهم من يفتخر بنسبه ومنهم من يحفظ نسبه؛ لأجل أن يُعرف ويتميز عن غيره، أما غير العرب فالأكثر أنهم لا يتميزون لا يميزون أنسابهم إنما فقط يمكن الرجل يعرف آباه وجده وجد أبيه، ولا يدري ما بعدهم ولا يتميز قبيلة عن قبيلة إلا القليل.
ومع اختلاط العرب بالترك وبالفرس في صدر الإسلام لما انتقل كثير من العرب وسكنوا في خراسان وفي كثير من البلاد، بلاد فارس وفي الهند وغيرها، ضاعت أنسابهم فاحتاج الرواة إلى أن ينسبوهم إلى البلدان منهم من احتفظ بنسبه ومنهم من نسب إلى بلده كالبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم.
مسلم احتفظ بنسبه أي بأنه من قبيلة قشير، قبيلة عربية. وكثر- أيضا- في رواة الحديث الموالي الذين ليس لهم نسب بالعربية وإنما هم من العتقاء وصاروا- أيضا- ينسبون إلى بلدانهم أو نحو ذلك.
وبكل حال فالله- تعالى- ذكر الحكمة من جعلهم شعوبا وقبائل، القبيلة يراد بها الأقربون ويقال لهم العشيرة والفخذ، في العشيرة قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ يعني أقاربكم، وهذا بيان أن الإنسان يحتفظ بعشيرته ويعرفهم ومعرفة عشيرته وأقاربه؛ لأجل صلة الرحم أي لأجل الصلة ولأجل البر بهم لا لأجل الافتخار بهم.
وكذلك القبيلة لأجل الانتساب إليهم وكذلك الشعوب.
الشعوب هم القبائل الكبيرة.
شعوبا يعني قبائل كبيرة مثل ربيعة ومضر وتميم وحنظلة وحنيفة ويربوع.
ذكروا أن قبائل العرب المستعربة هم ذرية إسماعيل الذين أخذوا العربية عن غيرهم ولكنهم أصبحوا عربا.
وأما العرب العاربة فأصلهم في اليمن ثم امتدوا إلى الشام ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ حديثا فيه أن سبأ رجل ولد له من العرب ولد له عشرة من الولد فتشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة، فأما الذين تشاءموا يعني صاروا في الشام فلخم وجزام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا فملحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار.
فاحتفظوا بها؛ لأجل أن يعرفوا لِتَعَارَفُوا ثم قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .
هذا بيان لما يفتخر به، أي لا تفتخروا بالآباء والأجداد ولكن افتخروا بالتقوى جاء في حديث: أن قوما قالوا: يا رسول الله أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا: نعم، قال فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا يعني أن الخصال التي كانوا في الجاهلية يتمادحون بها تبقى في الإسلام.
خيارهم في الإسلام هم خيارهم في الجاهلية بشرط أن يكونوا فقهاء، يعني عالمين بما ينفعهم وعالمين بما يلزمهم من أمر الله تعالى.
فالخصال التي كانوا يتمدحون بها في الجاهلية إذا كانت خصال حميدة فإنها- أيضا- يمدح بها في الإسلام، فيمدح في الجاهلية والإسلام بالكرم والجود ونحوه.
يقول بعضهم:
ويظهر عيب الناس في المرء بخله
ويسـتره عنهـم جميعـا سـخاؤه
فالكرم والجود مما يمدح به في الإسلام والجاهلية، كذلك الشجاعة والإقدام يمدح بها في الجاهلية وهكذا في الإسلام، كذلك الأخلاق والآداب، كذلك لين الجانب وحسن الخلق هذه من الخصال التي يتأدب بها، يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ التقوى: هي توقي عذاب الله- تعالى- وتوقي غضبه ومعصيته والبعد عن ذلك.
وفسرت بتفاسير، ذكرها ابن كثير - رحمه الله- في أول سورة البقرة عند قوله: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
ومنها تفسير بعضهم بقوله: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وفسرها بعضهم بمثال، يعني مثال حسي، قال: إذا كنت حافيا ومشيت في أرض فيها شوك فكيف تمشي؟
قال: أتوقى ذلك وأنظر مواضع قدمي فلا أضع قدمي إلا في مكان ليس فيه شوك ولا أذى.
فقال: هذا هو التقوى، يعني توقي هذا الأذى ونحوه، نظم ذلك بعضهم بقوله:
خــلِّ الـذنـــوب صغيرهــا
وكبـــيرهــا ذاك التقــــى
.. وكن كمـاشٍ فــوق أرض
الشـوك يحــذر مــا يـــرى
لا تـحـــقـرن صـغـــيرة
إن الجبــال مـن الحــــصى
فهذا بيان حقيقة التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .
أما الآية والآيات بعدها:
ففي حقيقة الإسلام والإيمان ذكر الله- تعالى- عن الأعراب يعني البوادي قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .
هكذا أخبر الله قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
الأعراب- غالبا- أنهم يدخلون في الإسلام من باب الطمع، طمعا في مال أو طمعا في غنيمة أو ما أشبه ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا .
وقال بعد ذلك: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ما لهم قصد إلا أن يأخذوا من المغانم.
إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ .
فدل على أن أكثر قصدهم المغانم ونحوها، ولكن منهم من كان إيمانه قويا كما في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ فمنهم هؤلاء، ومنهم شبه المنافقين.
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ فهؤلاء كأنه وصف أغلبيٌ للأعراب، يعني البوادي أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، الإيمان الحقيقي، وإنما أسلموا إسلاما ظاهرا استسلموا، وانقادوا خوفا من القتال، ورغبة في المال؛ ولهذا قال:
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي ما آمنتم إيمانا حقيقيا، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
الإسلام هو في الأصل الانقياد والإذعان، يعني أسلمنا ظاهرا. الإسلام في الأصل أن الإنسان يستسلم لمن يرأسه، ويكون على حالته استسلمنا أسلمنا واستسلمنا وانقدنا دون أن يكون هناك رغبة حقيقة في الإسلام، فهكذا قال: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا .
يعرف أو ورد حديث في بعض الكتب: مثل المؤمن كمثل الجمل الُأنخ إن قيد انقاد وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ ولذلك سمي مسلما بمعنى أنه استسلم، وانقاد لما يطلب منه، وهكذا الذين يسلمون خوفا.
تذكرون قول بعض الصحابة:
دعا المصطفى دهـرا بمكة لم يجب
وقـد لان منه جـانب وخطـاب

فلما دعا والسيف سلـطا في كفــه
له أسلمـوا واستسلمـوا وأنابـوا
فالاستسلام هو الإذعان والانقياد، يعني فيفسر الإسلام بأنه الانقياد الظاهر، سواء كان قد وقر الإيمان في القلب، أو لم يقر فيه فيكون هو الأعمال الظاهرة، وفي حديث جبريل المشهور أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما كان فسر الإسلام والإيمان في حديث واحد، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، بالأركان الخمسة والإيمان بأعمال القلب، فيدل على أنهما إذا جمعا فإن أحدهما وهو الإسلام يكون بالأعمال المشاهدة، والإيمان يكون بأعمال القلب، ومع ذلك فقد فسر النبي- صلى الله عليه وسلم- الإيمان في حديث عبد القيس الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم فجعل ذلك تفسيرا للإيمان.
فلذلك قال كثير من العلماء، ومنهم ابن رجب في شرح الأربعين: إذا ذُكر الإسلام وحده دخلت فيه أعمال القلوب، دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخلت فيه أعمال الجوارح، وإذا ذكرا جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب.
ويقول بعضهم في ذلك: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
إذا ذُكر أحدهما دخل فيه الآخر، فيجتمعان أعمال القلب وأعمال البدن، وإذا ذكرا جميعا فإن الإسلام له تفسير والإيمان له تفسير.
ومع ذلك فإنه لا يجوز الجزم لإنسان بأنه مؤمن؛ وذلك لأن الإيمان خفي، في حديث سعد الذي في البخاري يقول: قسم النبي- صلى الله عليه وسلم- مالا فأعطى رجالا وترك رجلا هو أعجبهم إليه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا قال: أو مسلم كرر ذلك سعد ثلاث مرات يزكيه بأنه مؤمن، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
أو مسلما ، يعني لا تجزم بأنه مؤمن، ولكن قل مسلم؛ لأنك لا ترى إلا الأعمال الظاهرة، الحديث.
فهذا فيه دليل على أننا نقول: هذا مسلم، ولا نجزم بأنه مؤمن، لكن إذا عرفنا أنه من أولياء الله وأتقيائه نمدحه بما نعرف منه ونقول أمر عقله وقلبه وضميره إلى الله تعالى.
أخبر الله عن هؤلاء بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي لم يدخل، ما دخل دخولا حقيقيا فلذلك أنكر عليهم وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ هذا قيل سبب، قيل: إنه يدل على أنهم منافقون لم يكونوا حقا المؤمنين.
لو كانوا كذلك لكان الإيمان قد دخل في قلوبهم؛ وذلك لأن كثير من الأعراب على النفاق لقوله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ لم يقل والأعراب كلهم، ومنهم وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ .
وقيل: إن الأصل أننا نعامل بالظاهر، فنقول: لا تقل إني مؤمن ولكن قل إني مسلم إلا في ضميرك أنت.
وكذلك- أيضا- نحن لا نقول: هؤلاء مؤمنون، بل نقول إنهم مسلمون على ما نعلم، وأمر قلوبهم إلى الله تعالى.
ثم قال بعد ذلك: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا هذا خطاب لهم- أيضا- أي قل لهم: لم تؤمنوا الإيمان الحقيقي، ولم يدخل الإيمان في قلوبكم، ولكن اعترفوا بأنكم مسلمون، ثم قال لهم: إذا أطعتم الله ورسوله فاعلموا أن أعمالكم لا تضيع وأن الله- تعالى- يعطيكم بقدر ما تستحقون من الأعمال.
لَا يَلِتْكُمْ يعني لا ينقص أعمالكم شيئا فلا يحمل عليكم شيئا من السيئات لم تعملوها، ولا يضيع شيء من أعمالكم الحسنة إلا إذا أبطلتموها، أبطلتموها بما يحبطها كالشرك ونحوه كما في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ .
فأما إذا لم يأت ما يبطلها فإنها مدونة فإن الله- تعالى- يجازيكم عليها عاجلا أو آجلا.
لا يلتكم إذا أطعتم الله ورسوله، الطاعة هاهنا لا بد أن تكون طاعة كاملة؛ حتى يثيب الله- تعالى- العبد ويعطيه ما وعده، طاعته في كل دقيق وجليل، وأما الذي يطيع في بعض دون بعض فإنه كالذين قال الله فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وبعد ذلك ذكر المؤمنين حقا، ذكروا في هذه الآية وفي آيات غيرها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني المؤمنون حقا، قال- تعالى- في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وقال- تعالى- في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ذكر أن هذا كله هم المؤمنون حقا، المؤمنون بآيات الله. فكذلك في هذه الآية المؤمنون حقيقة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني صدقوا تصديقا جازما، كان من آثار التصديق الطاعة.
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ما وقع في قلوبهم شيء من الريب ولا من الشك ولا من التوقف.
لم يرتابوا وجاهدوا، هذا- أيضا- عمل.
جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فجمع بين الإيمان الذي هو العقيدة وبين الإيمان الذي هو العمل، وبهذا استدل أهل السنة على أن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فإن الله أدخل فيه الصلاة وأدخل فيه الزكاة، وأدخل فيه الطاعة الظاهرة، وأدخل فيه قيام الليل، وأدخل فيه الذكر والتسبيح، وأدخل فيه الجهاد، فدل على أن هذه كلها من خصال الإيمان.
وَجَاهَدُوا الجهاد في الأصل بذل الجهد، ويراد به هاهنا قتال الكفار.
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يعني بذلوا أموالهم في سبيل الله لقتال الكفار، وبذلوا أنفسهم وكان ذلك في سبيل الله، يعني في طاعة الله وحده.
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني هؤلاء حقا هم الذين صدقوا في إيمانهم في قولهم: آمنا، فصدقهم، بمعنى أن الله- تعالى- مدحهم وصدقهم؛ لأنه هو الذي يعلم أسرارهم، ويعلم ما في ضمائرهم، علم بأنهم آمنوا بالله ورسوله إيمانا حقيقيا، علم الله ما في قلوبهم وعلم أنهم لم يشُكوا ولم يتطرق إليهم ريب ولا شك كالمنافقين الذين هم الأعراب الذين قال الله فيهم: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا يعني ظننتم بأن الرسول والمؤمنين سيغلبون أو يقتلون ولا يرجعون إلى أهليهم أبدا، وهذا ظن سوء.
ولهذا قال: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا فهذا حقا هو هؤلاء هم المؤمنون بعد ذلك قال: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ توبيخ لهم لأنهم كأنهم يمدحون أنفسهم ويقولون: آمنا يعلمون الله أو يعلمون الناس أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ إن الله عالم بكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يعلم الله جميع ما في الكون فلا حاجة إلى أن تعلموه وتخبروه بشيء هو أعلم به منكم.
دينكم يعني ما تدينون به أو ما في ضمائركم وما تخفيه أنفسكم لا تعلموه فإنه عالم بكم وبأحوالكم وبعقائدكم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ في هذا إثبات صفة العلم وأن الله- تعالى- بكل شيء عليم، وأنه عالم بالجلي والخفي، يعلم كل ما في السماوات، وكل ما يحدث في الأرض.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم بعد ذلك قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ يمنون، يعني يظهرون أن لهم المنة كأن منتهم أنهم يمتنون على النبي- صلى الله عليه وسلم- يقولون: نحن أجبناك واستجبنا لدعوتك، وقبلنا ما جئت به وأسلمنا وآمنا ودخلنا في دينك، والتزمنا بطاعتك وبالجهاد معك، والتزمنا بأن نتبع ما جئت به ولا نرد شيئا مما جئت به.
هذا أصل امتنانهم، ولا يجوز لأحد أن يمن على الله- تعالى- ولا على رسوله، بل يعترف أن المنة لله عليه.
في قصة الأنصار- رضي الله عنهم- بعد وقعة حنين لما أنهم قالوا: يغفر الله لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطي أجلاف العرب من هذه الغنائم، ويتركنا وأسيافنا تقطر من دمائهم! .
-فعند ذلك- جمعهم وقال لهم: ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ وأخذ يذكرهم وهم يقولون: الله ورسوله أمنّ، فقال ألا تجيبون لو شئتم لقلتم: جئتنا وحيدا فأويناك، وجئتنا طريدا فنصرناك وأخذ يعدد وهم يقولون الله ورسوله أمن يعني المنة لله ورسوله، لله المنة علينا فهو الذي هدانا وهو الذي نصرنا وأغنانا وهو الذي جمعنا بعد أ ن كنا متعادين، وألف بين قلوبنا بعد أن كنا متخالفين.
فهكذا نقول: لله المن على عباده؛ حيث أنه الذي هداهم، وأنه الذي أقبل بقلوبهم على طاعته، فليس لهم أن يفتخروا ولا أن يعتزوا بأنفسهم، ولا أن يفتخروا بأعمالهم.
الله ورسوله أمن..
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يمتنون عليك بإسلامهم.
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الله تعالى هو الذي هداكم فهو الذي يمن على .... هداية.
منَّ عليكم بالإيمان إذا كنتم صادقين في أنكم مؤمنون وبالإسلام الذي تنتمون إليه ظاهرا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي لا تدَّعوا شيئا غير ما يعلمه الله.
فالله- سبحانه- يعلم غيب السماوات والأرض يعلم كل ما خفي وكل ما تجلى غيب السماوات والأرض.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ .
فالحاصل أن في هذا دليل على أن الإيمان الذي في القلب لا يعلمه إلا الله- تعالى- وأن الناس يحكمون بما ظهر لهم ولا يزكون أحدا إلا من زكاه الله تعالى.
فلا يجوز أن نقول: هذا نشهد له بأنه مؤمن وأنه تقي وأنه ثقة وأنه عابد، بل نقول: يظهر لنا منه أنه مسلم وأنه مستسلم وأنه مطيع، وأما سره فهو إلى الله- سبحانه وتعالى- ولا نزكيه لقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ولقوله تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى .
التزكية هي التمدح، مدح الإنسان نفسه بأني مسلم، وبأني مؤمن وبأني تقي، وبأني منفق، وبأني، وبأني...
فهذا مما نهى الله- تعالى- عنه في هذه الآيات، وكذلك في هذه السورة؛ حيث أنكر على هؤلاء الذين يزكون أنفسهم.
في هذه الآية دلالة على الفرق بين الإسلام والإيمان، فمن العلماء من قال: إنهما- كما ذكرنا- يدخل أحدهما في الآخر، ومنهم من لم يصرح بذلك وهو شيخ الإسلام في كتاب الإيمان- مع توسعه- لم يصرح بأن الإسلام يحتوي على الإيمان، وكأنه اعتمد هذه الآية واعتمد حديث سعد لما قال: إني أراه مؤمنا، قال: أو مسلم أن الإسلام إذا أطلق وحده فلا يدخل فيه الإيمان، فلا بد أن الإيمان هو الذي تنبعث منه الأعمال.
فلا يكفي أن يقال: مسلم مؤمن، الإسلام إذا أطلق هل تدخل فيه أعمال القلوب أم لا؟ ثم إن كثيرا من العلماء ذكروا- لما تكلموا على حديث جبريل عليه السلام- قالوا: الإسلام أعم والإيمان أخص من الإسلام، والإحسان أخص من الإيمان.
فقالوا: مثال ذلك لو أن قوما حُشروا في حائط كبير، قيل: يدخل في ذلك كل من ينتمي إلى الإسلام، ولما دخلوا كان في هذا الحائط حائط أصغر منه في داخله، أُدخل في ذلك الحائط أهل الإيمان جُعلوا في وسط ذلك الحائط الكبير، ثم في وسط ذلك الحائط الصغير حائط- أيضا- أصغر منه نُقي فيه أهل الإحسان من هؤلاء. وأدخلوا في هذا الحائط الصغير الذي في وسط حائط أكبر منه، فيقال: أهل هذا الحائط الصغير هم المحسنون، والصغير الذي أكبر منه هم المؤمنون، والحائط الكبير هم المسلمون.
ومثل بعضهم بالرتب والأدوار التي بعضها فوق بعض، فإذا كانت الدور الأرضي أوسع أدخلوا فيه كلهم، ثم يُنقى أهل الإيمان فيصعدون في الدور الثاني، ثم يُنقى أهل الإحسان فيصعدون في الدور الثالث.
فيكون كل محسن مؤمن ومسلم، من اتصف بالإحسان اتصف بأنه محسن ومؤمن ومسلم، ومن اتصف بالإيمان اتصف بأنه مؤمن ومسلم وليس بمحسن، ومن اتصف بالإسلام اتصف بأنه مسلم وليس بمؤمن ولا بمحسن.
أي لم يصل إلى درجة الإحسان فضلا عن درجة الإيمان.
فعلى هذا كل محسن مؤمن مسلم، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، وليس كل مسلم مؤمنا ولا محسنا.
هكذا يفهم من كلام الشُّراح والمتكلمين على مثل هذه الآية؛ حيث فرق الله- تعالى- فيها بين أهل الإيمان، وأهل الإسلام فجعل هؤلاء مسلمين وليس بمؤمنين.
وقد اختلف فيهم قال بعضهم: إنهم منافقون، علم الله- تعالى- أنهم منافقون، وإنما دخلوا في الإسلام تقية.
هذا حصل- كثيرا- في أول الإسلام، نزل فيهم قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ يعني أنه يقول آمنا بالله ولكن إيمانه ليس بحقيقي فإذا أصابه أذى أو فتنة أو عذاب أو محن فإنه يخاف من الناس كما يخاف من الله، ويخاف من عذاب الناس كما يخاف من عذاب الله. وهذه الآية قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني ليس متمكنا فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ يعبد الله ولكن عبادته غير متمكنة والإيمان في قلبه ليس بمتمكن، فيدخل فيه مثل هؤلاء الذين قالوا آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، إذا أصابهم خير استمروا في إسلامهم واستمروا في عبادتهم، وإذا ابتلوا إذا أصيبوا بأمراض أو عاهات أو نكبات أو خسران انقلبوا وارتدوا على أدبارهم، انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ فهذا ونحوه مما استنبط من هذه الآية الكريمة، نتوقف هنا، والله أعلم.
جزى الله شيخنا خير الجزاء وأعلى الله منزلته، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول.
س: أحبتي في الله، هذا سائل يسأل فضيلة الشيخ فيقول: ما معنى الأثر الذي ورد اختاروا أنسابكم أو لأنسابكم فإن العرق دساس؟


لتختاروا لنكوحكم، يعني اختاروا للنكاح فإن العرق دساس، معناه مثل ما جاء في الحديث: فاظفر بذات الدين تربت يداك يعني أن تختار المرأة الصالحة التقية النقية، ويمكن- أيضا- أن يدخل فيه اختيار أهل الخير، أن تكون من أناس معروفين بالعفة ومعروفين بالديانة والصيانة والأمانة.
فهذا يفيد أن الأولاد قد يتأثرون بأقاربهم، فإن كانوا صالحين وأهل خير تأثروا بهم، إذا سمعوا بأن آباءهم وأجدادهم أهل علم وأهل دين وأهل عبادة فيكون هذا معنى كون العرق دساس، وإذا كانوا بضد ذلك تأثروا بما يسمعون، هذا هو الظاهر.
لكن قد يقال إن ظاهره أن العرق يؤثر في الفروع، إذا كانت الأصول خيرة أو منحرفة أثر في ذلك، لكن يظهر أن هذا ليس بمراد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه .

س: أثابكم الله، فضيلة الشيخ في هذا الزمن كثرت المغريات فما هو الضابط لصلة الرحم يا شيخ في هذا الزمان؟


صلة الرحم يعني صلة الأقارب الذين بينك وبينهم قرابة من جهة الأب ومن جهة الأم، يدخل فيهم الأعمام وبنوهم وأعمام الأب وأخوال، وأخوال الأبوين ونحوهم، صلتهم يعني زيارتهم واستزارتهم وإكرامهم والإهداء إليهم، وقبول هداياهم، ودعوتهم وقبول دعواتهم، والتودد إليهم، والهدية لهم وما أشبه ذلك.
هذا يدخل في صلة الرحم، قطيعتها هو الجفاء والمقاطعة والهجران والبغضاء والعداوة ونحو ذلك.
س: شيخ بس .. يا شيخ الواجب أيش اللي يعني ما يكفي يا شيخ للصلة في هذا الزمان يا شيخ؟


ما لا يكون قطيعة إذا لم يعد قاطعا فإنه يصير واصلا فإذا كانوا مثلا أغنياء وأثرياء ليسوا بحاجة إلى مواساتهم فلا يقال: إنك هجرتهم وقطعتهم، ولكن تظهر لهم المودة والمحبة وتنصحهم وتعلمهم.
س: فضيلة الشيخ هذا سائل يسأل ويقول: ما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ؟


جاء فيه يحب لأخيه من الخير، ويفسر الخير بأنه الخير الديني والخير الدنيوي، وإذا أحب لإخوانه المسلمين الخير الديني والدنيوي فإنه يدلهم عليه، وإذا أحب لهم الخير فلا يحسدهم، لا يحسدهم على ما أعطاهم الله- تعالى- فإن الحسد محرم وصف الله به اليهود قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ الحب محبة الخير هو الإرشاد إليه والدلالة عليه.
س: أثابكم الله، شيخ هذا سائل يسأل ويقول: يوجد بديل للأطفال من أشرطة الأفلام أو الرسوم المتحركة يا شيخ فمدى صلاحيتها يا شيخ هل يدخل فيها ..الصور يا شيخ؟


لا شك أن الأطفال بحاجة إلى ما يشغلهم، وإذا لم ينشغلوا بمثل شيء يسليهم وينشغلون به حصل منهم أذى، وربما يخرجون ويتعرضون للحوادث وللمصائب وما أشبه ذلك، وربما- أيضا- يذهبون إلى أناس عندهم أفلام خليعة وصور فاتنة، فإذا كان لا بد بعض الشر أهون من بعض، فينشغلون بالشيء الذي هو أخف.
من قواعد الفقهاء: ارتكاب أخف المفسدتين؛ لتفويت أعلاهما.
إذا كان ولا بد من إحدى المفسدتين فإنهم يختارون ما هو أخف، يدخل في ذلك هذه الأفلام إذا لم يكن منها بد، وإن كان الأولى صيانتهم وتعويدهم على سماع القرآن والذكر والخير إذا استطاع الأبوان ذلك.
س: أثابكم الله، أيضا نفس السائل يا شيخ يسأل يقول: ما هو الضابط في معرفة الصورة المهانة وغير المهانة هل هو حجمها و..مكان وضعها؟


ما ذكروا أن الإهانة إلا الامتهان لها تقول عائشة في ذلك القرام كانت سترت فرجة لها بقرام يعني ستارة فيها صور فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: فجعلت منه وسادتين منبوذتين توطئان.
فإذا كانت توطأ هذه الصور، ويجلس عليها وتوطأ بالأقدام فلعل ذلك هو المراد بأنها مهانة ممتهنة.
س: أثابكم الله هذا السائل يسأل يا شيخ ويتكرر السؤال في هذا المقام يقول: هل على الزوجة شرعا القيام بواجبات الزوج من غسل وطبخ غير الفراش وهل عدم قيامها بهذه الأشياء يدخلها في المحظور الشرعي؟


يرجع هذا إلى العرف، وقيل: إنه- أيضا- داخل في الشرع.
العرف أن المرأة تخدم زوجها، أنها تصلح له الطعام والشراب وتغسل ثيابه وتغسل أوانيه، وتنظف منزله وتصلح فرشه، وغير ذلك مما العادة أنها تخدم به هذا هو المعتاد كثيرا، ثم يدل على ذلك الواقع في عهد الصحابة فإن فاطمة - رضي الله عنها- طحنت حتى مجلت يداها، يعني حتى تنفطت وصار فيها مجل، يعني مثل النفط.
وكذلك أسماء بنت أبي بكر كانت تخدم الزبير كان له فرس في مكان بعيد مسيرة فرسخ فكانت تطبخ النوى ترضحه ثم تطبخه ثم تحمله على رأسها ثم توصله إلى ذلك المكان إلى ذلك الفرس.
هذا دليل على أن النساء يخدمن أزواجهن الخدمة المعتادة.
فالفقهاء- رحمهم الله- ذكروا أنه يأتي لها بخادم إذا كان قادرا على ذلك، وأنه لا يلزمها أن تخدم زوجها، وخالف في ذلك ابن القيم في زاد المعاد فذكر أنها تخدم زوجها الخدمة المعتادة، وهذا هو الذي عليه العمل.
س: أثابكم الله، شيخ هذا سائل من الإخوة الذين يعملون في المستشفى يا شيخ في توعية الجاليات فيقول: تسلم ممرضة مسيحية وغير ذلك، لكن يا شيخ يكرهون أن تفارق زوجها مباشرة؛ لأنها إن فارقت زوجها مباشرة ربما ترتد فما هو توجيهكم ..يا شيخ ؟


إذا كان زوجها موجودا معها في هذه البلاد فلا بد أنه يتجنبها وعليهم في هذه الحال أن يدعوا زوجها قبلها.
فإن زوجها إذا أسلم وكان كتابيا بقيت معه يجوز بقاء الكتابية مع زوجها المسلم، لكن إذا كان غائبا إذا كان في بلاده مثلا في الفلبين أو في تايلاند أو سيريلانكا أو بعض البلاد التي تغلب عليها النصرانية فالأولى لهم أن يكاتبوه ويدعوه إلى الإسلام.
وهي- أيضا- تكاتبه وتقول له: إني قد أسلمت وإنك إذا أسلمت وأنا في العدة فإني سأبقى في عصمتك وذمتك، يرغبونها في ذلك. وهو لعله يهتدي إذا أرسلت إليه رسائل أو يعني مترجمة أو أشرطة مترجمة فيها مدح الإسلام.
س: السؤال الأخير يا شيخ يقول: الآن يا شيخ في المجلس ربما يذكر الأخ أو يعدد أعماله الدعوية والخيرة فهل هذا من المن يا شيخ؟


هذا ليس من المن على الله- تعالى- قد يكون من التزكية إذا كان يذكره للتمدح، وأما إذا كان يذكره لأجل البشرى يبشر زملاءه ويبشر جلساءه بأنه قد نفع وأنه قد دعا وأنه قد أثر؛ ليحثهم على أن يقوموا بمثل ما يقوموا به فإن ذلك عمل خير، ومنه قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ بمعنى أنك إذا قصدت من إبداء الصدقة أن يقتدي بك الناس وأن يسارعوا إلى الصدقة؛ حتى يكون لك مثل أجورهم فإن ذلك ممدوح، يدل عليه الحديث الذي فيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مرة رغب في الصدقة وأخذ يحث عليها، ويقرأ الآيات التي تحث عليها حتى قرأ قوله تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وبعد ذلك جاء رجل بصُرة من النقود كادت يده أن تعجز عن حملها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس لما رأوه ابتدأهم بهذا المال تتابعوا.
يقول الراوي: حتى رأيت كومين، كوم من تمر وكوم من طعام ورأيت- أيضا- أكواما من النقود، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها يعني أن هذا الذي ابتدأ وجاء بذلك المال الكثير هو الذي سن هذه السنة الحسنة حتى اقتدى به غيره، أما إذا كان يقصد بذلك الفخر أو المن، فإن ذلك يبطل صدقته لقول الله تعالى:
لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى والله أعلم، وصلى الله على محمد . أثابكم الله، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .