جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري
40448 مشاهدة
باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-
باب: سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي -صلى الله عليه وسلم- له.
ثم قال: جاء جبريل -عليه السلام- يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا، وما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .
حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ثم أدبر، فقال: ردوه: فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم .
قال أبو عبد الله جعل ذلك كله من الإيمان.


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يفسر الإسلام بأنه الأعمال الظاهرة، والإيمان بأعمال القلب، وهذا إذا جمعا، إذا ذكرا جميعا.
فالإسلام: هو الأعمال الظاهرة، والإيمان: هو أعمال القلب، كما في هذا الحديث؛ وذلك لأن الإيمان يفسر بالاعتقاد، والإسلام يفسر بالاستسلام.
وأصل المسلم أنه هو الذي يسلم أمره لربه، وهو الذي ينقاد لما أمر به، وهو الذي يفعل الأعمال الظاهرة التي كلف بها، وأما الإيمان فإن أصله العقيدة التي تكون في القلب.
ذُكر أن الصحابة كانوا يستحيون من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسألوه، ويحترمونه، فجاء جبريل -ملك الوحي- في صورة رجل، ذكر في الحديث أنه جاء في صورة رجل أعرابي؛ ولكن مع ذلك ما رأوا عليه أثر السفر، ما جاء من بعيد، وكذلك ما عرفه أحد منهم، مما يدل على أنه غريب.
لما جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، يعني عن كل واحد منهما، النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر له ذلك، وبين أن هذا كله من الدين.
فأولا- في هذا الحديث أنه سأله عن الإيمان، يعني حقيقة الإيمان ومنبعه، فقال: ما الإيمان؟ فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الأركان؛ ولكنه ما ذكر إلا أربعة أركان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث فما ذكر الإيمان بالكتب، ولا بالقدر، وقد ذُكر ذلك في حديث آخر.
فالإيمان بالله تعالى يدخل فيه الإيمان بربوبيته أي أنه هو رب العالمين ومالكهم، ويدخل فيه الإيمان بوحدانيته أي أنه معبودهم وحده، ويدخل فيه الإيمان بأسمائه وصفاته أي أنه عالم الغيب والشهادة، الموصوف بصفات الكمال، والمنزه عن صفات النقص. هذا مما يدخل في الإيمان بالله.
وأما الإيمان بملائكته فهو أن نؤمن بأن لله ملائكةً خلقهم لعبادته، ووصفهم بقوله تعالى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ وأن عددهم كثير، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وأنهم لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وأنهم مقربون عنده، وأنهم لا يسألونه عن ما لا يحتاجون إليه، يقول الله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ يعني خائفون من شدة خشيته، يخافونه خوفا شديدا.
والإيمان بلقائه، يعني بلقاء ربنا في الآخرة؛ يعني نؤمن بأننا ملاقوه، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ يعني راجعون إليه، وقال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا أي مقابلة ربه وملاقاته في الآخرة.
أما الإيمان بالرسل، ذكر الله في القرآن خمسة وعشرين رسولا، مجموعهم الرسل الذين ورد ذكرهم؛ مع أن رسل الله كثير، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وجاء في حديث أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسل، جم غفير، نؤمن بهم، ونؤمن بأن خاتمهم وآخرهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه أشرف الرسل وأفضل الأنبياء، ونؤمن بأن رسالته باقية، وأن رسالته عامة، عامة إلى الجن والإنس، وإلى البعيد والقريب، وأن شريعته لا تنسخ، ولا نبي بعده.
الإيمان بالبعث هو التصديق بأن الناس إذا ماتوا يبعثون، وأنهم محاسبون ومجزيون بأعمالهم؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. نصدق بذلك، ومن آمن بالبعث فلا بد أن يستعد للقاء الله، لا بد أن يستعد ويتأهب، فإن من صدق بشيء فلا بد أن يستعد له، والاستعداد هو كون العبد في هذه الحياة يعمل الأعمال الصالحة التي تكون سببا في أن الله تعالى ينجيه في الدار الآخرة من العذاب، ويدخله دار الثواب، والأعمال الصالحة ظاهرة.
أما من يقول: آمنت بالآخرة وصدقت بالبعث ومع ذلك يعمل عمل الفجار، ويفرط أي في الطاعات، ويرتكب المحرمات فمثل هذا ما صدق في قوله: إنه مؤمن بالآخرة؛ لأن الإيمان بالآخرة لا بد أن يظهر أثره على المؤمن.
من أركان الإيمانِ الإيمانُ بكتب الله يعني أنه أنزل كتبا على رسله، وفي تلك الكتب أمره ونهيه، وشرعه، وقضاؤه وقدره، وأخباره، وأسماؤه وصفاته. وآخر تلك الكتب: هو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما أن نبينا خاتم الرسل فكذلك كتابه آخر الكتب، وهو مهيمن عليها، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يعني محتويا على ما فيها، وكذلك أيضا زائدا على ما فيها، ومفصلا لما فيها، فسماه الله تعالى: مهيمنا، يعني محتويا عليها.
والإيمان به يظهر أثره، من آمن بأنه كلام الله فلا بد أن يظهر أثر هذا الإيمان عليه؛ فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه، ويقف عند عجائبه، ويعتبر بأمثاله، ويصدق بأخباره، ويتلوه حق تلاوته، ويحتسب الأجر في تلاوته، ويقرؤه ويتدبره. هذا أثر من آمن به.
من أركان الإيمانِ الإيمانُ بالقدر خيره وشره، القدر قدرة الله، وهو أن نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يخرج عن قدرته شيء، وأن أعمالنا داخلة في خلقه، قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ أي خلق ما تعملونه، فنؤمن بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن جميع الكون خلق الله وحده، هو المنفرد بالخلق، والمنفرد بالرزق وبالتدبير، نؤمن بذلك.
هذه أركان الإيمان.. وقد فصلها العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في عقيدته الواسطية، بدأها بالإيمان بالله، ثم ذكر الإيمان بكتبه، وقال: من الإيمان بكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأنه كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، وأنه كلام الله حيثما قرئ، وحيثما كتب، لا يخرج عن كونه كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا.
ثم ذكر الإيمان بالبعث بعد الموت، وتفاصيل الآخرة، ثم ذكر أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ثم ذكر الإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه من تفاصيل ما ذكر في هذا الحديث.
يقول: قال ما الإسلام؟ يعني أخبرني عن الإسلام؛ لأن الإسلام في الظاهر هو الانقياد، قال الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا أسلموا يعني أذعنوا وانقادوا وتذللوا وخضعوا لعظمة الله تعالى ولجلاله، فكلهم مستسلمون، لا يخرج أحد منهم عن تصرف ربه. فالإسلام هو الانقياد، وفسره بالأعمال الظاهرة.
فبدأ بالتوحيد أن تعبد الله ولا تشرك به فهذا هو أصل الإسلام؛ يعني توحيد الله، ومعلوم أنه مأخوذ عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا بد من تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به، وبذلك يكون العبد مصدقا ومنقادا ومتبعا ومخلصا عبادته لله لا يصرف شيئا منها لغيره؛ ولهذا قال: أن تعبد الله يعني أن تصرف جميع أنواع العبادة لله، تدعوه وحده، وترجوه وحده، وتخافه وحده، وتتوكل عليه، وتتوب إليه، وتنيب إليه، وتخشع له، وتخضع له، وتتواضع بين يديه، وتحبه غاية المحبة، وتطلبه، وتستغيث به، وتلجأ إليه، وتعتصم به، وتحتمي بحماه، وتركع له وتسجد، وتقوم له وتقعد، وتتعبد له بجميع العبادات البدنية الظاهرة والباطنة، فهذا هو حقيقة عبادة الله.
ولا تشرك به أي لا تصرف شيئا من حقه لغيره، لا تجعل له شريكا في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه. هذا هو الركن الأول.
الثاني- الصلاة، تقيم الصلاة يعني تظهر فعلها، إقامتها يعني فعلها، جعلها قائمة يعني ظاهرة، فهذه الصلاة التي هي هذه الصلوات الخمس هي ركن من أركان الإسلام، ولا بد للمسلمين أن يقيموها، فإذا أخلوا بها دلَّ على أنهم لم يستسلموا ولم ينقادوا.
وتؤدي الزكاة الزكاة حق المال، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله، ذكرت معها في أكثر من ستين موضعا من القرآن، فرضها الله تعالى وأمر بها، فلا بد للعباد أن يؤدوها، يؤدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم، فإن الله تعالى أعطى الكثير وأرضى، وطلب القليل قرضا، طلب منهم جزءا يسيرا من أموالهم إذا أنعم الله عليهم، وجعل مصرفها فيهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، من باب التسوية بينهم.
قال: الركن الرابع- وتصوم رمضان يعني هذا الشهر الذي فرضه الله تعالى، قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فجعل صيامه عبادة.
ما ذكر في هذا الحديث في هذه الرواية الركن الخامس وهو الحج، ولكنه جاء في حديث آخر، وهو بلا شك من شعائر الإسلام، ولعله لم يذكره في هذه الرواية؛ لأنه لا يجب إلا على القادرين، ولا يجب إلا مرة واحدة في العمر.
والحاصل.. أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، الصلاة والتوحيد والصيام والزكاة والحج، هذه أعمال ظاهرة، فتسمى إسلاما.
بعد ذلك سأل: ما الإحسان؟ .
الإحسان في اللغة الإتقان، إتقان الشيء وتقويته، فإذا كان الإنسان من أهل إتقان العمل صدق عليه أنه من المحسنين، فسره هاهنا بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك هكذا جاء في تفسيره، وهو أن الإنسان يعبد الله كأنه يشاهد ربه، ولا شك أنه إذا كان كذلك فإنه يخضع له ويخشع ويتواضع ويحضر قلبه ولبه بين يدي ربه، بخلاف ما إذا صلى وهو غافل، أو تصدق وهو غافل، أو صام وهو غافل، أو قرأ أو ذكر الله وهو غافل، فإنه يقل إقباله وتقل إنابته، فالذي يعبد الله كأنه يراه لا بد أنه يحرص على إتقان هذه العبادة وتجويدها.
يقول: فإن لم تكن تراه فإنه يراك إذا لم تكن تراه ونقص أي ما في قلبك من مشاهدته فاعلم أنه يراك.
الحالة الأولى تسمى عين المشاهدة، أن تعبد الله كأنك تراه، أي كأنك تشاهده، وهي أقوى الحالات.
والثانية تسمى عين المراقبة وهو أن تعلم أن الله عليك رقيب، وأنه لا يخفى عليه منك خافية، ومن استحضر أنه بمرأى ومسمع من الله فإنه لا بد أن يقبل بقلبه على عبادة ربه.
هكذا فسر هذه الخصال الثلاث الإسلام، والإيمان، والإحسان.
ذكر العلماء أن أوسعها هي مرتبة الإسلام، وأهل الإيمان خلاصة أهل الإسلام، أما أهل الإحسان فإنهم خلاصة الخلاصة، يعني صفوتهم، فالصفوة والخلاصة هم أهل الإحسان، فكل من كان محسنا فإنه مسلم ومؤمن، وكل من كان مؤمنا فإنه مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، وليس كل مؤمن محسنا، فمن حصل على مرتبة الإحسان صدق عليه أن يقال: هذا مسلم ومؤمن ومحسن، ومن فاتته مرتبة الإحسان قيل: هذا مسلم ومؤمن، ومن فاتته مرتبة الإيمان قيل: هذا مسلم، فمن حصل على الإسلام فاته أن يكون من أهل الإيمان ومن أهل الإحسان، وأما إذا حصل على الإحسان فإنه قد حاز جميع المراتب. هذا هو الجمع بينها إذا جمع بينها.
ثم سأل عن الساعة؛ وذلك لأنهم كانوا يكثرون السؤال: متى الساعة؟ متى تأتي الساعة؟ يجيبهم الله كما في قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ وقال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا فهاهنا قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل يعني لا علم لي بمجيئها، كما أنك لا تعلم متى تأتي فكذلك أنا، فهكذا أخبر، وَكَلَ علمها إلى الله؛ ولكنه أخبره ببعض أشراطِها، أشراطُها يعني علاماتها، قال: وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان هذه من علامات قربها.
الأول- إذا ولدت الأمة ربتها الأمة هي المملوكة، إذا وطئها سيدها، ثم بعد ذلك ولدت له أولادا -ذكورا وإناثا- وصار هؤلاء الأولاد يأمرون أمهم ويكلفونها ولا يحترمون أمهم، ويقولون: أنت مملوكة لوالدنا، فأنت مملوكة لنا. وكأنه إشارة إلى أن الأولاد في آخر الزمان -ذكورا وإناثا- لا يحترمون والديهم، يستخدم الرجل أمه، ويستخدم أباه، ويكلفهما ولا يعترف بحقهما، فهذا من أشراط الساعة.
الثاني- إذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان يعني البوادي الذين يرعون الإبل، والذين عادتهم أنهم يتبعونها في البراري، يتركون ذلك ويسكنون في البنيان، ينزلون في القرى فيتركون البدو ويتطاولون في البيوت، كل منهم يحاول أن يكون أطول من الآخر، ثم ذكر أن هذا من جملة ما أُخبر به؛ لقوله تعالى: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا وأن علم الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، جمعها الله تعالى في آية في آخر سورة لقمان، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي لا يعلمها غيره، متى تكون؟ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي لا يعلم متى ينزل المطر إلا الله وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ أي لا يعلم ما في الأرحام -ذكورا أو إناثا- إلا الله وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا أي ما يدري الإنسان ما يأتيه بعد يومه، لا يدري ما حاصل عليه في اليوم الذي بعد يومه أو في الساعة التي بعد ساعته؛ لأنه لا يعلم الغيب ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ لا يدري بأي أرض وبأي بلاد يأتيه أجله.
يقول: ثم إن ذلك الرجل أدبر؛ يعني خرج، ولما اختفى عنهم قال: ردوه. فذهبوا ليردونه فلم يروا شيئا، لم يجدوه فقال: هذا جبريل ملك الوحي جاء يعلم الناس دينهم هكذا جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا كله من أمر الدين.
أشار البخاري أيضا إلى حديث وفد عبد القيس ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه وفد عبد القيس قبيلة من ربيعة كانت منازلهم في جهة البحرين ؛ يعني في الأحساء وفي القطيف وفي تلك الجهات، فلما جاءوا ليتعلموا قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- آمركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله... إلى آخره. يأتينا قريبا إن شاء الله.
الباب الذي بعده.

قال رحمه الله:
باب حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله أن عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.


جاءت هذه الجملة في حديث ذكره البخاري قبل كتاب الإيمان من قصة أبي سفيان والد معاوية ذهب مع قومه إلى الشام في تجارة فسمع بهم هرقل الذي هو ملك الروم، فأحضرهم وسألهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألهم عن أتباعه، أشراف الناس أو ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم.
فقال: هم أتباع الرسل.
سأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقال: بل يزيدون.
سأله: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فقال: لا.
يقول: سألتك هل يرتد منهم أحد؟ هل يزيدون أم ينقصون؟
فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم، يعني أن الله تعالى يقذفه في القلوب، ثم يزيد أهله إلى أن يتم ما أمر الله به، وهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه. قلت: لا.
يقول: فعلمت أنه هكذا الإيمان، هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ما يسخطه أحد.
فيدل على أن الإيمان الذي في القلب إذا امتلأ به القلب فإنه يحبه أهله ويركنون إليه ولا يسخطه أحد، فدل على أنه تُخالِط بشاشته القلوب.