إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
74508 مشاهدة
معنى المهاجر

...............................................................................


أما المهاجر فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. معلوم أن الهجر هو بغض الشيء وتركه والبعد عنه المهاجر الذي ينتقل من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ لأنه يهجر بلد الكفر ويبغضها ويبتعد عنها فيسمى مهاجرا؛ لأنه هجر الكفر وهجر أهله، ولذلك أيضا يهجر أقاربه العصاة ونحوهم لأنهم أهل معصية بل يهجر كل من عصى الله تعالى، تبغض العاصين وتمقتهم وتبتعد عنهم وتحذر من أن يجروك إلى المعصية فهذا أصل الهجران.
وأما هنا فقال: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه يعني: ابتعد عما حرم الله سواء من الأعمال أو من الأعيان أو من الأموال أو من الأشخاص يبتعد عنهم, فيهجر الكلام السيئ، ولو أن هناك من يجر إليه ويدعو إليه, إذا قيل فلان يقول الهجر؛ فلان قال هجرا يعني قال كلاما قبيحا، وإذا قيل فلان هجر الكلام السيئ؛ يعني أبغضه فلا يتكلم بسوء ولا يقدح ولا يعيب ولا يسب ولا يغتاب.
وكذلك إذا قيل هجر المناظر السيئة؛ يعني صان عينيه فلا ينظر إلى الصور الخليعة ولا ينظر إلى الأفلام الفاتنة الهابطة، ولا ينظر إلى النساء المتكشفات سواء بارزات أو ينظر إلى صورهن المرسومة في الصحف ونحوها.
وكذلك أيضا لا ينظر إلى المحرمات التي تعتبر فتنة، يمتثل قول الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فلا ينظر إلى أهل الدنيا نظر غبطة, لا ينظر إلى الذين أوتوا زهرة الحياة الدنيا، ويقول: هؤلاء ذو حظ عظيم، هؤلاء الذين أنعم عليهم، هؤلاء الذين متعوا بما متعوا به، فيحتقر حالته ويتمنى مثل أولئك فينظر إليهم نظر إعجاب، هذا يعتبر إذا صد عنهم واحتقرهم ورضي بما قدر الله له صدق عليه أنه هجر ما نهى الله عنه.
وكذلك أيضا يهجر الكلام السيئ؛ فيصون أذنيه فلا يستمع إلى غناء ولا إلى مزامير ولا إلى طرب ولا إلى طبول، وما أشبهها مما قد تمتد إليه الأطماع وتتمناه القلوب وتلتذ له الآذان، لكن يعرف أنه مما نهى الله عنه فيهجره.
وهكذا يهجر بقية المحرمات, المعاملات ونحوها, فيهجر السرقة والغش في المعاملات والمعاملات الربوية، يهجر المكاسب السيئة كالغرر وما أشبهه، والنهب والسلب والاختطاف والاغتصاب للمحرمات وما أشبهها، وكذلك بقية ما نهى الله عنه وهو كثير.
من كان كذلك صدق عليه أنه من المهاجرين؛ أي مهاجر هجرة صحيحة؛ يعني أنه هجر المحرمات بأقواله وبأفعاله، فهذا بيان من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وسبب ذلك قوة الدين قوة الإسلام قوة العقيدة، فإنه إذا امتلأ قلبه بالإيمان، وبمعرفة ربه سبحانه وتعالى، وبمعرفة ما أمر الله به وبمعرفة الثواب والعقاب، فإن هذه المعرفة التي امتلأ بها قلبه تحمله على أن يبتعد عن المحرمات، وأن يفعل الواجبات، تحمله على أنه يصون لسانه عن الغيبة والنميمة، وأذى الجيران وأذى المسلمين، ويصون عينيه ويصون أذنيه ويديه ورجليه وفرجه وبطنه ومكسبه، ويحفظ جميع ما أمر الله تعالى بحفظه، فيكون بذلك من المهاجرين حقا، الذين لهم أجر الهجرة الذين ذكروا في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ينتهي المسلم ما دل عليه هذا الحديث، ويبحث عن الأسباب التي تجعله مسلما حقا ومهاجرا حقا، وليس من شرط الهجرة أن ينتقل من بلاده التي ولد فيها، إذا كان فيها إسلام ظاهر ولو إلى بلاد فيها علم أو فيها خير، إلا إذا قصد الاستفادة من شيء لم يكن موجودًا عنده. والله تعالى أعلم.