اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
74298 مشاهدة
معنى الشفاعة والدليل على مشروعيتها

...............................................................................


ففي هذا دليل على مشروعية الشفاعة؛ ومعناه إذا جاءك إنسان له حاجة عند آخر؛ حاجة عند موظف، أو حاجة عند تاجر، أو حاجة عند شركة، أو حاجة عند مدرسة، أو نحو ذلك، وهو قد يعجزه أن يقضيها أو لا يستطيع أن يدبرها، وأنت لك وجاهة، ولك منزلة فإن من حقه عليك أن تساعده على ذلك، وأن تشفع له حتى تقضى حاجته، فيكون لك أجر على التخفيف عنه ومساعدته، ولك أجر على نفع إخوتك المسلمين وعلى التخفيف عنهم، وعلى إيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم.
هذه الشفاعة تعم الشفاعة في الأمور الدينية والدنيوية، وتعم الشفاعة في فعل ما ينفع أو في دفع ما يضر؛ وذلك لأن الإنسان المستضعف مثلا؛ قد يقع في مأزمة قد يقع في أزمة شديدة، ويحتاج إلى من يخففها عنه، فيحصل ذلك بشفاعة من يساعده؛ ليشفع له لتخفيف أزمته، وإزالتها فيكون للشافع أجر.
وكذلك أيضا قد يسجن مثلا ظلما؛ فيحتاج إلى من يشفع له حتى تزال عنه هذه المظلمة، وقد يتهم بتهمة هو مظلوم فيها، فيحتاج إلى من يشفع له، وإلى من يسعى في تخليصه من تلك المظلمة التي وقع فيها، والتي أنيطت به واتهم بها ولا صحة لها، فالذين يسعون في إزالة الظلامة عنه لهم أجر على ذلك.
الذين يشفعون هم الذين لهم جاه ولهم مكانة ولهم معرفة؛ إما عند الملوك وإما عند الوزراء، وإما عند التجار والأثرياء وإما عند المدراء أونحوهم، فهؤلاء عليهم حق أن يشفعوا لهؤلاء المستضعفين، ويعتبر ذلك زكاة الجاه, الذي له جاه يزكي هذا الجاه حتى قال بعض الشعراء:
فرض الإله زكاة ما ملكت يدي
وزكاة جاهي أن أعين وأشفع
فالذي له جاه عند أحد الأمراء ونحوهم يشفع لهؤلاء المستضعفين؛ إما في قبولهم في دراسة أو نحوها، وإما بالصدقة عليهم إذا كانوا بحاجة إلى صدقة؛ كفقراء ومساكين ومستضعفين وغارمين ومدينين ومعوزين من ذوي الحاجات.
ويقول مثلا أصحاب المال وأصحاب الثروات: إننا لا نميز بين الصادق والكاذب؛ يأتينا الخلق الكثير، وقد يكون كثيرا منهم ليسوا صادقين ولا محقين، وإنما هم معروف أنهم ذوو حيل يريدون أخذ المال وتحصيله، ونحن لا نميز هذا من هذا.
أما أنت فقد عرفت، وقد تحققت أن هذا الذي استشفع بك صادق في قوله، وأنه محق وأنه من ذوي الحاجة والفاقة، فتأتي إلى هذا المحسن الكريم الذي يثق بك، ويصدق قولك ويعرف نصحك فتقول له: إني أشفع عندك لفلان الذي وقع في شدة، والذي وقع في مصيبة، فهو بحاجة إلى أن تخفف عنه، وإلى أن تفرج عنه ما وقع فيه؛ لا شك أنك والحال هذه قد نفعت أخاك ونفعت المحسن الأخر.
فهذا الذي عنده زيادة ثروة، وعنده مال يحب أن يتصدق على ذوي الحاجات، ولكن لا يميز بين هذا وهذا، فإذا أتيته وأنت تميز قبل قولك، وقبل شفاعتك فكان لك الأجر بهذه الشفاعة، وكان لصاحب المال الأجر بإصابته لمستحقيه، وحصل تخفيف هذه المصيبة.
وهذه الأزمة التي نزلت بهذا المستضعف بواسطتك، فهذا يدعو لك حيث صرفت ماله في مستحقيه، والفقير يدعو لك حيث فرجت عنه ما هو فيه من الشدة، وما هو فيه من المصيبة التي اشتدت به، فيكون لك الأجر مرتين.
فينبغي على المسلم ألا يحقر جاهه، وأن يعين ذوي الحاجات في قضاء حاجاتهم. أما إذا كنت جاهلا، ولا تتحقق من صحة دعوى هذا المدعي فلك أن تعتذر، وأن تقول: أئت غيري ممن يعرفك وممن يثق بصحتك وبصدقك وبصحة دعواك, لك عذر والحال هذه إذا لم تتحقق من صحة مدعاه.
والحاصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يكون عارفا بذوي الحاجة، وقادرا على أن يقضي حاجة هذا وهذا، ولكن أحب أن يكون لأصحابه أجر بهذه الشفاعة؛ فكأنه يقول: أنا أقدر على أن أقضي حاجة هذا وأخفف عن هذا، ولكن أريد أن تساهموا أريد أيها الأصحاب أن يكون لكم نصيب من الحسنات وأجر من فعل الخير، وذلك بشفاعتكم فاشفعوا تؤجروا أي تحصلوا على أجر.
فلذلك كانوا يشفعون عنده بل وبعده أيضا يشفعون عند خلفائه، إذا جاء أحدهم صاحب حاجة يريد أن تقضى حاجته؛ إما حاجة دنيوية وإما حاجة دينية، فإنهم يشفعون عند الخلفاء، وقد يكون الخلفاء لا يميزون أكثر الناس، ولا يعرفون صاحب الحاجة الصادق وغير الصادق فيحتاجون إلى من يشفع لهم.
وهكذا أيضا في كل حال في هذه الأزمنة، وفي غيرها ما قبلها وما بعدها؛ لا شك أن مثلا الملوك والوزراء والأمراء والمدراء والمسئولين لا يستطيعون أن يميزوا بين الناس، ولا أن يعرفوا جميع الأشخاص، فإذا كان أحد المقربين عندهم؛ كبوابين أو خداما أو عمالا أو موظفين يعرفون صاحب هذه الحاجة، فشفع عندهم قبلوا شفاعته؛ أولا: معرفتهم بأنه ناصح لهم ولا يكذب عليهم, وثانيا: معرفتهم به شخصيا، وبأنه يتحرى الصدق، وثالثا: حاجتهم إلى قبول شفاعته؛ لأنه محل ثقة عندهم ولأنهم يأمنونه على أسرارهم وعلى أموالهم وأعمالهم، فيقبلون شفاعته.
وهكذا أيضا يقبلون شفاعة من يثقون به، يقبلون شفاعة مثلا القضاة والمعلمين والمدرسين ونحوهم، ويقبلون أيضا شفاعة الوجهاء والمشاهير، يقبلون شفاعتهم في إزالة شدة عن إنسان، أو تخفيف لمصيبة نزلت به، أو تخفيف لحكم شديد وقع فيه، أو لمظلمة أو سجن طال عليه أو ما أشبه ذلك.
فنتواصى بأن نكون من هؤلاء، ورد أثر: أن خير الناس أنفعهم للناس، فالذي عنده قدرة على أن ينفعهم بماله يفعل، والذي يقدر على أن ينفعهم بجاهه يفعل حتى يثاب، وحتى يكون ذلك من باب التعاون على الخير.