إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.
شرح لمعة الاعتقاد
191359 مشاهدة
إثبات الاستواء على العرش واختلاف الفرق فيه

ثم رجع إلى الآيات فذكر قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى هذه الآية من سورة طه أثبت الله تعالى الاستواء وأنه على العرش وجاء مثل هذه الآيات في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وفي سورة يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وكذلك في سورة الرعد وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة وفي سورة الحديد وردت في سبعة مواضع من القرآن إثبات صفة الاستواء على العرش ولذلك؛ لما ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية أدلة العلو جعلها أحدا وعشرين نوعا وبدأ بآيات الاستواء وذكر أنها سبعة:
...................................
سـبع أتـت فـي محـكم القرآن
وكـذلك اضطــردت بــلا لام ولو
كـانـت بمعنـى اللام في القرآن
لأتت بهـا في موضع كي يحمـل الـ
بـاقـي عليهـا وهــو ذو إمكان
ثقلت هذه الآية على المعتزلة والأشعرية ونحوهم؛ لأن فيها إثبات الاستواء على العرش وأوردوا على ذلك شبهات كثيرة عقلية؛ كما فعل الزمخشري في الكشاف, والرازي في تفسيره, وغيرهم, وأطالوا في الرد عليها؛ يعني إنكار صفة الاستواء على العرش, وأما أهل السنة فإنهم أثبتوها صفة لله تعالى ولكنهم توقفوا عن الكيفية يقول أبو الخطاب .
في عقيدته:
قالوا فتزعم أن على العرش استوى
قلـت الصـواب كذاك أخبر سيدي
قالوا فمـا معـنى استوائـه قل لنا
فأجبتهـم هـذا ســؤال المعتدي
أي أننا نعتمد على خبر الله تعالى الصواب، إثبات ذلك كما أخبر الله تعالى عن نفسه، ثم إن أهل السنة فسروا الاستواء كما ذكر ذلك في تفاسيرهم فابن جرير رحمه الله كلما أتى على هذه الآية على آيات الاستواء اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي ارتفع على العرش علا على العرش وذكر ابن القيم أنه فسرها بأربعة تفاسير نظمها في النونية في قوله:
ولهـم عبــارات عليهــا أربع
قــد حـررت للفــارس الطعان
وهـي استقر وقد علا وكذلك ار
ـتفع الذي مـا فيـه مـن نكران
وكذاك قـد صعـد الذي هو رابع
وأبو عبيدة صـاحـب الشيبــان
يختـار هـذا القـول في تفسيره
أدرى مــن الجهمي بالقــرآن
والأشعري يقـول تفسـير استـوى
بحقيقــة اسـتولى مـن البهتان
فذكر أنهم فسروها بأربعة تفاسير: أشهرها اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ استقر على العرش, ثم منهم من قال استوى: ارتفع على العرش, وقال قيل اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قال استوى: صعد على العرش وكل ذلك يدل على صفة العلو, وهي أصرح آيات العلو, أما المعتزلة ونحوهم فسلطوا عليها التأويلات. فمنهم من قال استوى بمعنى: استولى؛ فزادوا فيها لاما, واستدلوا ببيت مكذوب, منسوب إلى الأخطل أنه قال:
قـد استوى بشر علـى العراق
مـن غـير سيف أو دم مهراق
والبيت لا أصل له, ولو قدر أنه ثابت عن الأخطل ؛ فإنه لا يكون دليلا, ولذلك قال شيخ الإسلام في لاميته:
قبح لمـن نبذ الكتـاب وراءه
وإذا استــدل يقـول قال الأخطل
دليلكم قول الأخطل تتركون الأدلة الصريحة وتذهبون إلى بيت لا أصل له منسوب إلى الأخطل فهذا تأويل لهم؛ استوى بمعنى: استولى, فزادوا فيها لاما, قد ذكرنا قول ابن القيم في قوله:
وكـذلك اضطـردت بـلا لام ولو
كـانت بمعنـى اللام في القرآن
لأتت بها في موضع كي يحمل الـ
باقي عليهـا وهـو ذو إمكـان
يعني أنها اضطردت بلا لام ولو أنها مرادة اللام فيها؛ لجاءت في موضع واحد من السبعة استولى فلما لم يأتي في موضع واحد؛ دل على أن إثبات هذه اللام من التحريف, ومن الزيادة في القرآن, ولذلك شبهها ابن القيم بالنون التي زادها اليهود؛ لما قيل لهم وَقُولُوا حِطَّةٌ قالوا: حنطة؛ فزادوا نونا فشبه لامهم بهذه النون في النونية يقول:
نـون اليهـود ولام جهمي همـا
فـي وحـي رب العـرش زائدتان
فهذه اللام استولى لا دليل عليها ثم ردها أيضا الأشعري أبو الحسن ذكرنا أنه كان له ثلاث حالات: حالة كان فيها معتزليا؛ ثم تاب وصار كلابيا؛ على طريقة ابن كلاب ؛ ثم في آخر حياته تاب وصار حنبليا؛ على طريقة أهل السنة, فهو له كتاب اسمه المقالات؛ تكلم فيه على آيات الاستواء.
ولما ذكر استوى قال: إنهم يقولون بمعنى: استولى قال: لو كان كما يقولون؛ لم يكن للعرش اختصاصا فإن الله مستول على جميع المخلوقات؛ فهو مستول على السماوات, وعلى الأرض, وعلى المخلوقات كلها وعلى الحيوانات, وعلى الحشوش, وعلى الأماكن المخلوقة كلها.
ولا يجوز أن تقول: إن الله استوى على الجبال, إن الله استوى على الأرض, إن الله استوى على الأشجار؛ لو كان استوى بمعنى استولى؛ لجاز ذلك, فلما لم يجز, وخص الله تعالى الاستواء بالعرش؛ دل على أنه استواء خاص, يليق به, وأنه كما فسره أهل السنة.
جاء بعضهم بتأويل آخر فقالوا العرش: هو الملك؛ وأنكروا أن يكون لله تعالى عرش مخلوق, قالوا اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ استوى على الملك؛ على ملك المخلوقات, أنكروا أن يكون هناك عرش مخلوق.
والأدلة على وجود العرش كثيرة ذكرها الله تعالى في القرآن وفي السنة مثل قوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ .
العرش في اللغة: هو السرير العظيم الذي يجلس عليه الملوك، قال الله تعالى عن الهدهد: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ثم قال سليمان أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ثم قال: نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ يعني سرير عظيم كانت تجلس عليه وكذلك يوسف قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي: على ذلك السرير الذي كان يجلس عليه, فالله تعالى خلق عرشا عظيما؛ جعله من أكبر وأقدم مخلوقاته, وقد اختلف؛ هل العرش أول المخلوقات, أو القلم؟
ورد في حديث: أول ما خلق الله القلم قال له اكتب والصحيح أن العرش قبله يقول ابن القيم في النونية:
والناس مخـتلفون فـي القلم الذي
كتب القضـاء بـه مـن الرحمن
هـل كـان قبل العرش أو هو بعده
قـولان عنـد أبي العلا الهمداني
والحـق أن العرش قبـل لأنــه
وقـت الكتابـة كـان ذا أركان
فالعرش مخلوق، وهو سرير عظيم, لا يعلم قدره إلا الله تعالى, وقد أخبر الله تعالى بأنه يحمل الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ في آيات كثيرة وصفه الله بصفات رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فلله تعالى عرش اختصه بالاستواء عليه؛ فالاستواء من أدلة إثبات صفة العلو لله تعالى.
من الآيات الدالة أيضا على العلو آيات السماء كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ في سورة الملك مرتين وجاءت في الأحاديث كثيرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أثبت أن الله في السماء وقال للجارية أين الله؟ قالت في السماء, قال: من أنا قالت: أنت رسول الله, قال: أعتقها فإنها مؤمنة هذا الحديث رواه مالك في موطئه, ورواه مسلم في صحيحه وغيرهما من الأئمة.
قصة رجل كانت له أمة مملوكة ولزمه عتق رقبة مؤمنة قال: هل أعتقها قال: ائتني بها فاختبرها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة أم لا فبدأ بسؤالها: أين الله قالت: في السماء, -على الفطرة؛ جارية مملوكة لا تعلم شيئا, ولكن فطرت على هذه المعرفة- قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله, قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة ؛ دليل صريح أقرها النبي صلى الله عليه وسلم وشهد لها بالإيمان, ومثل ذلك أيضا الحديث الذي فيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء أمين الله الذي في السماء.
وقال صلى الله عليه وسلم: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء يعني يرحمكم الله أدلة واضحة في إثبات أن الله تعالى في السماء كذلك هذا الحديث عن حصين وحصين والد عمران بن حصين جاء به ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان شيخا كبيرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كم إلها تعبد؟ كم لك من الآلهة تعبدها فقال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحد في السماء يعني: أنه يعبد ستة أصنام في الأرض وأنه مع ذلك يعبد الله؛ وذلك لأنه يعتقد أن هذه الستة أنها تقربه إلى الله كما في قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى اعترف بأن واحدا في السماء, أقره النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله في السماء.
في رواية أنه قال له: من لرغبتك ورهبتك؟ من الذي تدعوه إذا كنت راغبا وراهبا أي خائفا أوراجيا فقال الذي في السماء هو الذي أرجوه عند الرهبة أي عند الخوف وعند الرغبة أي الرجا فقال له: اترك الستة التي في الأرض واعبد الذي في السماء يعني اشهد أنه هو الإله واشهد أنه هو الرب, وأنا أعلمك لدعوته؛ أسلم بعد ذلك؛ علمه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: اللهم ألهمني رشدي, وقني شر نفسي ؛ دعوتين مفيدتين, اللهم ألهمني رشدي, وقني شر نفسي, أقره على قوله: أن الذي يدعوه لرغبته ورهبته الذي في السماء.
كذلك ذكر أنه نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة أنهم يسجدون بالأرض يزعمون: أن إلههم في السماء يعني يسجدون في الأرض؟ على الأرض, وإلههم الذي يعبدونه في السماء؛ أي فوقهم.
وروى أبو داود في سننه حديثا يسمى حديث الأوعال وفيه : أن ما بين كل سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا -مسيرة خمسمائة سنة في بعض الروايات- ثم قال: وفوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء, والعرش فوق ذلك, والله تعالى فوق العرش هذا حديث مشهور بحديث الأوعال أثبت فيه الفوقية, والله فوق العرش, هذا الحديث مروي في السنن مرفوع رواه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب التوحيد له الكتاب المطبوع قد اشترط أنه لا يذكر فيه إلا الأحاديث الثابتة التي ليس في أسانيدها سقط وليس فيها انقطاع؛ فهو حديث معتمد فيه إثبات الفوقية؛ أن الله فوق العرش.
وردت الفوقية أيضا في القرآن في مواضع منها ما يحتمل التأويل ومنها ما لا يحتمل التأويل فمن ذلك قول الله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أثبت الفوقية هاهنا وقد يقال إن الفوقية هاهنا فوقية القهر كقول فرعون وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون ولكن وردت الفوقية في سورة النحل في قول الله تعالى في قوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فهذه صريحة لا تحتمل التأويل في إثبات أن الله تعالى فوق عباده كما يشاء ثم نعرف بذلك أن الآيات التي فيها إثبات أن الله في السماء صريحة في إثبات الفوقية.
وقد فسرها العلماء بتفسيرين الأول أن في السماء يعني في العلو فإن كل شيء سما يعني ارتفع فإنه يسمى سماء؛ كل ما ارتفع فإنه سماء هكذا كل شيء مرتفع ويسمى السقف سما قال تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء يعني إلى السقف وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا من السماء يعني من السحاب لأنه سامي يعني مرتفع سما يعني ارتفع فيكون قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أي أأمنتم من في العلو من هو عال فوق عباده.
والقول الثاني: أن في بمعنى: على؛ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أي: من على السماء, وليست للظرفية؛ في السماء يعني: في جوف السماء؛ بل في تأتي بمعنى على كما قال تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي :على الأرض، وقال عن فرعون وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي على جذوع النخل ليس في جوفها فعرف بذلك أن هذه الآيات دالة على إثبات هذه الصفة لله تعالى.
ثم ذكر يقول: هذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله يعني هذه النصوص وعلى تقبله, ولم يتعرضوا لرده, ولا لتأويله؛ ما ردوا شيئا من ذلك, ولا تأولوه أي: حرفوه ولا شبهوه ولا مثلوه؛ بل قبلوا ذلك, واعتقدوا ما دل عليه.
ذكر بعد ذلك أن الإمام مالك بن أنس رحمه الله سئل عن آية الاستواء؛ دخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله أرأيت قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله حتى علاه الرحبة يعني: العرق؛ ثم رفع رأسه؛ فقال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, ولا أراك إلا مبتدعا, ثم أمر به فأخرج وطرده؛ وذلك لأنه تكلف في هذا السؤال.
وهذا الجواب مروي أيضا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن من مشاهير علماء المدينة أنه سئل فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب, ومن الله الرسالة, وعلى الرسول البلاغ, وعلينا التسليم, وروي أيضا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها نحو هذا وروي أيضا عنها مرفوعا والصحيح أنه لا يصح مرفوعا أنه روي عن أم سلمة من قولها وروي عن مالك وروي عن شيخه ربيعة وهذا هو قول أهل السنة: أن الاستواء معلوم غير مجهول يعرفه العرب بلغتهم ويفهمونه ويفسرونه ويترجمونه من لغة إلى أخرى كما فسروه باستقر واستوى يعني ارتفع, وعلا, وصعد, فهو لفظة معلومة دلالتها ظاهرة.
ذكر بعض العلماء أن كلمة استوى إذا كانت لازمة غير مقرونة بحرف فإن معناها التمام؛ قال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى يعني: كمل وتم أي شبابه وقوته؛ فهاهنا استوى بمعنى كمل وتأتي بمعنى إلى كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فهي هاهنا بمعنى قصد إلى السماء أي لخلقها وتأتي استوى بمعنى: علا وارتفع؛ دليل ذلك قوله تعالى: وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يعني استوت السفينة على الجودي يعني على الجبل استوت بمعنى استقرت مرتفعة على الجودي.
وقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ أي لتركبوا على ظهورها أي ترتفعوا على ظهورها؛ فالاستواء بمعنى العلو, وقوله تعالى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يعني ارتفع السنبل على سوقه على قصبه فالاستواء على سوقه بمعنى مرتفع عليها, ومنه قولهم: استوى على الجبل؛ يعني ارتفع عليه؛ فهذا معنى قول مالك الاستواء غير مجهول: أي أنه معروف عند العرب وأنه يفسر, ولا خلاف فيه, ولا حاجة إلى التكلف فيه؛ فهو كلام واضح؛ يفسر، ويترجم، ويعرفه الصغير والكبير؛ الذي عرف هذه اللغة, والكيف غير مجهول: الكيفية الاستواء لها كيفية، كيفية الاستواء هي المجهول التي...