شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.
فصول ومسائل تتعلق بالمساجد
13487 مشاهدة
الفصل الثالث في فضل خدمة المساجد وعمارتها بالطاعة

قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية، حيث وصف من يعمر المساجد بالإيمان بالله واليوم الآخر، والصلاة، والزكاة، وخشية الله وحده، والاهتداء الكامل، أي أن المؤمنين بالله حقا هم الذين يحملهم إيمانهم على عمارة المساجد.
وأكثر أهل العلم على أن المراد عمارتها بالصلاة والذكر والقراءة والعلم، وأنواع العبادة، فهي العمارة الحقيقية، ولهذا أورد الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان لأن الله يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [ورواه الترمذي وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وقال: هذه ترجمة للمصريين لم يختلفوا في صحتها وصدق رواتها. لكن قال الذهبي إن دراجا كثير المناكير، أي: دراج أبو السمح أحد رجال الإسناد، وقد أورده النووي في رياض الصالحين مع التزامه بذكر الأحاديث الصحيحة والحسنة] .
ثم إن معناه تشهد له الآية الكريمة، حيث زكى ربنا سبحانه من يعمر المساجد، ووصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر.. إلخ، وذكر ابن كثير عند هذه الآية عن عبد بن حميد بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يعمر مساجد الله أهل الله [وكذا رواه البزار كما في الكشف، في باب في عمار المساجد عن صالح المري عن ثابت عن أنس قال: لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا صالح قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه صالح المري وهو ضعيف] .
قلت: ولعله مستنبط من الآية الكريمة.
وقال الزمخشري في الآية: أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء، وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رم ما استرم منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر: درس العلم، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد، من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث .
ثم أورد عدة أحاديث منها حديث بلفظ: يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة [قال الحافظ أخرجه الطبراني عن أبي وائل عن ابن مسعود وفيه: بزيع أبو الخليل وهو متروك. ثم ذكر أنه رواه ابن حبان في صحيحه من طريق آخر بنحوه ] .
ويدخل في خدمة المساجد إنارتها، فقد ذكر الزمخشري عن أنس -رضي الله عنه- قال: من أسرج في مسجد سرجا، لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه [قال الحافظ رواه الحارث بن أسامة من رواية الحكم العبدي عن انس وفي الطبراني عن علي رفعه: من علق قنديلا في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك.. إلخ لكنه ضعيف] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد، فمات فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، فقالوا: مات. قال: (أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره، أو قال قبرها)، فأتى قبره فصلى عليه وسميت في بعض الروايات: أم محجن .
والمراد: أنها تجمع القمامة وهى الكناسة، ومنها قطع الخرق، والقذى، والعيدان، قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب ما يسقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا، ففي هذا الحديث فضل تنظيف المسجد وإزالة ما يقع فيه من قمامة وقذى، لأنه يشوه المنظر، ويسبب النفرة من المسجد، بخلاف الموضع النظيف، فإن النفس تألفه وترغب إطالة البقاء فيه.
ومن تنظيفه تطييبه بالنضوح والدخنة، فقد روى أبو يعلى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يجمر المسجد كل جمعة. [قال الهيثمي وفيه عبد الله بن عمر العمري وثقه أحمد وغيره، واختلف في الاحتجاج به] . ولا شك في استحباب تطييب المساجد بالعود ونضحها بالطيب، لمكانتها وشرفها، وذلك مما يرغب العامة في الجلوس فيها، ويسبب محبة النفوس لها، ويزيدها جمالا.
وقد روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد.. إلخ [رواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة في صحيحه، وسكت عنه أبو داود وقال المنذري في تهذيبه: وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وثقه ابن معين وتكلم فيه غير واحد. وقال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذكر أن البخاري استغربه، ونقل عن البخاري والدارمي أن المطلب بن عبد الله راويه عن أنس لا يعرف له سماع من أحد الصحابة] . ومع ذلك فمعناه صحيح، ويشهد لذلك قصة المرأة التي كانت تقم المسجد، فماتت فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبرها .
ومن خدمة المساجد فرشها بما يريح المصلين ولو بتراب نظيف، أو حصباء، فقد روى أبو داود عن أبي الوليد قال: سألت ابن عمر عن الحصا الذي كان في المسجد، فقال: إنا مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يجيء بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: ما أحسن هذا [لكن إسناده ضعيف] .
ولا شك أن إراحة المصلين بما يزيل عنهم حرارة الأرض، أو يقيهم من الغبار، أو يزيل عنهم شدة الحر مما يثاب عليه من قصده، ولذلك اعتيد في هذه الأزمنة جعل البسط والسجاد المريح في أغلب المساجد، بعد أن كانوا يصلون على الحصباء والأرض الصلبة والغبار، فوجدوا بذلك راحة وانبساطا ومحبة للعبادة، ورغبة فيها.
ومن خدمة المساجد إنارتها كما سبق في حديث أنس وعلي على ما فيهما من الضعف، وقد روى ابن ماجه وأبو داود عن ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفتنا في بيت المقدس. قال: (فإن لم تأتوه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله) ولابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري وهو موقوف وسنده ضعيف. ولا شك أن إسراج المسجد الذي هو إنارته مما يسبب الرغبة فيه وينير الطريق لمن دخله، حتى يعرف الموضع الذي يقصده، وينظر مواضع الصلاة، ويتوقى خطر الصلاة لغير القبلة، أو العثور في نائم، والاصطدام بسارية أو حائط، وقد يسر الله تعالى في هذه الأزمنة وجود الكهرباء الذي يحصل بها تمام الإنارة والضياء الكامل، حتى أشرقت المساجد، واستنار الطريق، وتيسرت السبل للوصول إلى المساجد بسهولة وراحة، وأمن من الأخطار والفزع الذي يعتري من يمشي في ظلمة مدلهمة، سواء كانت في المساجد أو في طريق الوصول إليها.
ومع ذلك فقد ورد ما يدل على فضل المشي إلى المسجد في الظلمات، وكثرة الأجر المرتب على ذلك، فقد روى أبو داود والترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة [وقال الترمذي غريب. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات] .
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليبشر المشاؤن في الظلم إلى المساجد بنور تام يوم القيامة [رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ] .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة [رواه ابن ماجه والحاكم وسكت عنه الذهبي وضعفه البوصيري في الزوائد] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاؤون إلى المساجد في الظلم أولئك الخواضون في رحمة الله [رواه ابن ماجه وفي إسناده: إسماعيل بن رافع متكلم فيه، ونقل الترمذي عن البخاري قال: هو ثقة مقارب الحديث] .
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة [قال المنذري رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن] .
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة [رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وابن حبان في صحيحه، ولفظه قال: من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد آتاه الله نورا يوم القيامة ]
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من النور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون [رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده نظر، كذا في الترغيب] .
وقد ذكر مثل هذا الحديث صاحب مجمع الزوائد عن أبي سعيد وزيد بن حارثة وعائشة وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء وأبي موسى وهو دليل على شهرة الحديث، وكثرة من نقله من الصحابة، ومن خرجه من أهل الحديث، ولعل سبب الترغيب بكثرة الثواب ما كان المسلمون فيه من شدة الظلمة في بعض الليالي، مع ضيق الطرق، والتوائها، فيصعب سلوكها والعبور معها إلى المساجد في الليالي المظلمة، مخافة الهوام واللصوص، والحفر والحجارة، والحيطان المعترضة، وقد خفت هذه الأشياء في زماننا بسعة الطرق وإنارتها، ونظافتها وأمنها والحمد لله، فلا عذر لأحد في التأخر لأجل ظلمة أو نحوها، فمتى وجدت الظلمة فصبر واحتسب ومشى لصلاة العشاء وصلاة الصبح كان أهلا أن يحظى بالنور التام يوم القيامة.