المكتبة النصية / من جملة الأرواح الملائكة
............................................................................... وكذلك أيضا من جملة الأرواح الملائكة؛ ما نراهم تخرقهم الأبصار, وليس لهم أجساد مشاهدة يكون لها ظل, وتحجب الظل, أو تحجب ما وراءها، فينزل ملك الموت ولا يراه أحد, وتخرج الروح ولا يراها أحد من البشر. هذا دليل على عظمة الخالق الذي خلق الأجساد، وجعل لها ثِقَلا ووزنا مشاهدًا، وخلق الأرواح ولم يجعل لها وزنا ظاهرا, ولم يجعل لها صورا واضحة مشاهدة, فأرواح بني آدم لا ندري ماهيتها، ولكن نتحقق أنها إذا خرجت من الجسد بقي الجسد ميتا ليس فيه حركة، وبقاؤها فيه سبب لحياته, ونتحقق أيضا أن هناك خلقا من خلق الله من جنس هذه الأرواح لا نراهم, قال الله تعالى عن الشياطين: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أي: جنسه من الشياطين { مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ } . وقد كثر كلام أهل العلم في حقيقة الروح, من أي شيء هي؟ ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله عَرَّفَهَا بأن الروح جسم خفيف علوي حي متحرك نوراني يَسري في الجسد كما تسري النار في الفحم، وكما يسري الدهن في العود, فما دام هذا الجسد قابلا لهذه الإفاضات من هذه الروح، فإنه يبقى حيا متحركا, فإذا أَذِنَ الله بخراب هذا الجسد فارقته هذه الروح, وخرجت حيث شاء الله. ثم قد اختلف: أين تذهب هذه الأرواح بعد قبضها؟ فمن العلماء مَنْ يقول: إن أرواح المؤمنين في الجنة, وأرواح الكفار في النار. قالوا: دليل هذا قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } يَعُمُّ ذلك الدنيا والآخرة, والبرزخ الذي هو بينهما, كذلك قال تعالى: { إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } قيل: إن كتابهم, يعني: أسماءهم, وقيل: أرواحهم. وقد اتفق على أن الأرواح بعد أجسادها -بعد خروجها من الأجساد- باقية ليست معدومة، وهي التي يقع عليها في البرزخ العذاب أو الثواب, بمعنى: أنها إذا كانت سعيدة فإنها في البرزخ تكون منعمة، ويكون يصل إليها من نعيم الجنة, وثواب الله تعالى ما يلائمها وما تستحقه. أما أرواح الكفار: فإنها في البرزخ معذبة، فعلى هذا يُحْمَلُ ما ورد في عذاب القبر ونعيمه أنه يقع على الأرواح, الأجساد تابعة لها, ولكن لا تحس بما تحس به الأرواح، كذلك المخلوقات التي هي أرواح بدون أجساد؛ كالشياطين, والجن, والملائكة, لا شك أنهم يموتون, وموتهم يمكن أنه بمفارقتهم -مفارقة أرواحهم لأجسادهم- وهي تكون أجسادهم، ولو كانت خفيفة لا ترى, لكن لها هيكل حقيقي. وبكل حال تكلم العلماء أولا على حقيقة الروح وماهيتها, وتوقفوا وعجزوا عن ذكر ماهيتها, ومن أي شيء؟ وكان ذلك دليلا على عجز الإنسان عن العلم بالغيبيات, وعن تكيّف ما وراء هذا الكون، ثم تكلموا عن أن الروح مخلوقة, وأن الأرواح كانت معدومة، ثم خُلِقَتْ لأنها شيء, والله خالق كل شيء، ثم تكلموا عن بقائها, وأنها باقية, وأن موتَها خروجُها من هذه الأجساد, فإنها بهذا الخروج تتألم كما يتألم الجسد لخروج الروح منه. كذلك الروح تتألم أيضا لمفارقة الجسد، ويكون هذا هو الموت الذي كتبه الله تعالى عليها, حتى ولو لم يكن هناك أجساد ظاهرة, يعني: كالجن والشياطين، فإن موتهم يكون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم، وإن كنا لا نشاهد الأجساد. ثم إن قبض هذه الأرواح ومفارقتها لأجسادها في الدنيا سَهْلٌ يسير على الله تعالى, ولو كانت كثيرة, يعني: ولو كان يموت في الدقيقة الواحدة مئات الألوف من الخلق في شرق الأرض وغربها. قدرة الله عامة؛ بمعنى أنه يقدر هو يُوَكِّلُ الملائكة -منهم ملك الموت- على أنه يقبض ما قدر الله تعالى قبضه من هذه الأرواح في أية ساعة أو لحظة يقدرها الله تعالى, الله قادر على كل شيء, ولا يعجزه شيء. إذا قلنا: إن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا يشغله سمع عن سمع, فأقدر الله هذا الملك -ملك الموت- على أن لا يشغله قبض روح هذا عن قبض روح الثاني، فكل منهم قد يأمره الله تعالى بقبضه في أية لحظة, ولا يشق عليه قبض الأرواح في ساعة واحدة, ولا شك أن هذا دليل على عظمة الخالق سبحانه، كيف أنه خلق هذا الخلق -الذي هو ملك الموت- وكيف أنه قَدَّرَ قبضه للأرواح؟ وكيف أنه زوى له الأرض وقرّب بعضها إلى بعض حتى كانت أمامه كأنها طست؟ وكذلك أيضا كيف أنه مَلَكٌ واحد يقبض الأرواح مع كثرتها في آن واحد؟ قد يكون ذلك لكبر ذاته, أنه لا يحيط بعظمته إلا الله تعالى, أو لخفته كما شاء الله. قد مر بنا أن بعضا من الملائكة خلقهم الله في ذوات كبيرة لا يحيط بها إلا الله؛ منهم كما ذكر إسرافيل الذي هو موكل بالنفخ في الصور، والذي ذكروا أن العرش, أن زاوية من زوايا العرش على كتفه فوق السماء السابعة, وأن رجليه تحت الأرض السابعة السُّفْلى. من يحيط به إلا خالقه؟ وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: { أذن لي أن أحدث عن مَلَكٍ من الملائكة ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة سنة } أو كما في الحديث. وإذا كانت هذه عظمة هذه المخلوقات، فكيف بعظمة الخالق؟ فإنه أعظم من كل شيء, وأكبر من كل شيء، وإذا استحضر العبد عظمة ربه, وجلاله, وكبرياءه, صغرت عنده الدنيا, وصغرت عنده نفسه, وحرص على أن يتواضع لله, وأن يعبد الله تعالى حَقَّ عبادته، فهذا من آثار معرفة هذه المخلوقات, من الملائكة أو من غيرهم. والآن نقرأ في كلام أبي الشيخ .