فإن المساجد لها مكانتها وشرفها، فلا يجوز امتهانها بكثرة المرور والعبور فيها من باب لباب دون حاجة ضرورية، وإنما لمجرد العادة أو اختصار الطريق، فأما إن كان المرور لحاجه فلا بأس بذلك، وهو ما كان يقع في العهد النبوي. وقد ترجم البخاري في صحيحه (باب المرور في المسجد ) وذكر فيه حديث أبي موسى رفعه: { من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها .. } هو في البخاري برقم 452. إلخ. وروى قبله حديث جابر بلفظ: { مر رجل في المسجد ومعه سهام . . } هو في صحيح البخاري برقم 451. إلخ. ولعل ذلك كان لحاجة ألجأته إلى المرور، وقد يراد بالمرور الدخول لصلاة أو عبادة ونحو ذلك. وهكذا ما روي في تفسير قوله تعالى: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } . عن ابن عباس قال: { لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب { إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } قال: تمر به مرا ولا تجلس } [رواه ابن أبي حاتم ] هكذا ساقه ابن كثير عند تفسيره هذه الآية بإسناد ابن أبي حاتم. . وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب { أن رجالا كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله تعالى: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } } رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية، ونقله ابن كثير في تفسيره. . وفي هذا جواز مرور الجنب في المسجد لحاجة الإتيان بالماء أو للاغتسال، ولا يجوز لغير حاجة، فقد روى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- { إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } هو في سنن أبي داود برقم 232 به مطولا. . لكن قال الخطابي إن أفلت مجهول، وضعف الحديث به، وتعقبه المنذري في تهذيب السنن، وابن القيم في شرح التهذيب بأنه معروف، وقد وثقه بعض الأئمة انظر كلام الخطابي والمنذري وابن القيم على الحديث في تهذيب السنن برقم 220. . وقد روى البخاري هذا الحديث في ترجمة أفلت من تأريخه الكبير، ولم يجرح أفلت وسماه بعضهم: فليت ولكنه ذكر أن عند جسرة عجائب ترجم البخاري لأفلت برقم 1710. وقد رواه ابن ماجه عن أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة عن أم سلمة بلفظ: { إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض } هو في سنن ابن ماجه برقم 645. . قال في الزوائد: "إسناده ضعيف، محدوج لم يوثق، وأبو الخطاب مجهول" هكذا نقده المحقق عن صاحب الزوائد وهو البوصيري. اهـ. ويمكن أنه عن جسرة عن عائشة وأم سلمة إن كان ثابتا، ولعل نهي الحائض مخافة تلويث المسجد، فمتى أمن ذلك جاز دخولها المسجد، والحديث قد حسنه الزيلعي في نصب الراية عن عائشة وناقش ما قيل في إسناده من المقال انظر نصب الراية 1\ 193، وقد أطال في تقوية الحديث. . وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: { قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ناوليني الخمرة من المسجد) فقلت: إني حائض. فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) } هو في صحيح مسلم برقم 298، وفسر النووي الخمرة: بأنها السجادة من حصير أو نحوه. . ثم روى نحوه عن أبي هريرة ولفظه: { بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: (يا عائشة ناوليني الثوب) فقالت: إني حائض. فقال: (إن حيضتك ليست في يدك فناولته) } حديث أبي هريرة رواه مسلم برقم 299 ولفظه: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: يا عائشة ناوليني الثوب.. إلخ. . وظاهره أنه طلب منها ثوبا وهو في المسجد فأتت به، ولم يمنعها الحيض، ولعلها أمنت من التلويث، أو اعتبرت أن النهي عن الجلوس فيه. وأما الجنب فلعل النهي عن دخوله المسجد؛ لأنه محدث حدثا أكبر، والمسجد موضع للعبادة، فلا بد أن يكون محل احترام، فلا يجلس فيه الجنب، وقد ذهب الأئمة الثلاثة إلى منع الجنب من المسجد حتى يغتسل، لقوله تعالى: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } أي: لا تقربوا أماكن الصلاة. وذهب الإمام أحمد إلى جواز دخول الجنب المسجد إذا توضأ، وروي عن الصحابة أنهم كانوا يجلسون في المسجد للتعلم وهم جنب إذا توضئوا، ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير هذه الآية، وروى ذلك بإسناد سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة. [وإسناده على شرط مسلم ] هكذا ذكره ابن كثير عند تفسير هذه الآية. . |