القيام والصيام من أسباب المغفرة

ومن أسباب المغفرة في هذا الشهر صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، وكذلك باقي الأعمال الخيرية كإخراج الصدقات والنفقات في سبيل الله، والذكر والدعاء والأعمال الصالحة، وتجنب الآثام، والابتعاد عن الإجرام، فذلك كله من الأسباب التي يغفر الله تعالى بها الذنوب، ويقبل بها الأعمال الصالحات. لا شك أن من جملة هذه الأعمال صلاة الليل، صلاة الليالي الشريفة، ليالي رمضان ليال شريفة، ليال فاضلة، قد أخبر الله تعالى بأنه أنزل فيها القرآن، وفيها ليلة القدر، وأنها خير من ألف شهر، ومن حكمة الله تعالى أن أخفى هذه الليلة حتى يجتهد المسلمون ويقوموا ما تيسر لهم من هذه الليالي، ويقتدوا بنبيهم -صلى الله عليه وسلم - ويعملوا بما يقدرون عليه من صفات أهل الإيمان الذين يحبون الله ويحبون الأعمال الصالحة التي يحبها الله، والتي يثيب عليها جزيل الثواب، وقد مدح الله تعالى الذين يصلون بالليل ويتهجدون، فوصفهم بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } أي يقطعون ليلهم أي أكثره ما بين سجود وقيام، وخص هذين الركنين؛ لأنهما أكثر وأفضل أركان الصلاة، ولا شك أن معهما أيضا بقية الأركان من أذكار وأدعية وخشوع وقراءة، مع الإنابة إلى الله تعالى، والطمأنينة في هذه العبادة، وهكذا ذكر الله تعالى عن عباده أهل الثواب وأهل الجنة بأنهم { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هكذا أخبر تعالى بأن من أعمالهم أنهم لا يطمئنون للفُرُش، وأنهم لا ينامون إلا قليلا، وما ذاك إلا لأنهم يرجون ثواب الله تعالى وذكر قيامهم وصلاتهم في الليل. وكذلك وَصَفَ المتقين الذين هم أهل الجنة بقوله تعالى: { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فالهجوع هو النوم، أي قليل نومهم بالليل، فقاموا ليلهم يصلون ويتهجدون، ثم في آخر الليل يجلسون يستغفرون، كأنهم مذنبون، هكذا تكون حال الصالحين، يعملون الأعمال الكثيرة ومع ذلك يعتبرون بأنهم مُقلون وبأنهم مذنبون، فيستغفرون ربهم بعد كل عمل، وهكذا حال الخائفين، ومتى كان العبد كذلك فإن الله تعالى يقبل منه، ويضاعف أجره، وهكذا أهل الفضل، مع عملهم يخشون ألا يُتقبل منهم. ويقول الله تعالى: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } وهذا قائم في ساعات الليل، ليس في ساعة واحدة، وكأنه وصف هذا القائم بأنه يقوم ساعة ثم يستريح أخرى، ثم يقوم ثم يستريح، فمن صلاة إلى راحة وهكذا ساجدًا وقائمًا، يتنقل في صلاته بين السجود والقيام والركوع والقعود، وما في الصلاة من بقية الأركان والعبادات. ولقد أمر اللهُ تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالقيام في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فهكذا وجَّه الله تعالى هذا الأمر إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليمتثلَ أمر ربه، وقد امتثل وطبّق ما أمره به، فكان -صلى الله عليه وسلم- { يقوم أكثر الليل، ولا ينامُ إلا قليلا } يتقرب إلى ربه بصلاته وبعبادته في الليل طوال زمن النبوة، أي بعد ما أُوحي إليه؛ وذلك لأن هذه السورة نزلت عليه أول ما أوحي إليه، أمره الله بأن يقوم الليل إلا قليلا، نصفه أو ينقص منه أو يزيد على النصف، فامتثل ذلك، كما ذكر ذلك الذين رووا صلاته -صلى الله عليه وسلم- وقد رغّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنس قيام الليل، فثبتَ عنه أنه قال: { أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل } ولما ذَكَرَ فضائل الأعمال ذكر منها قيام الرجل في جوف الليل، وقرأ الآية التي في سورة السجدة { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } أي أنَّ هذا من أفضل الأعمال.