* لقد ذم الله تعالى في كتابه العزيز من يتبع الهوى وعابهم على ذلك الاتباع. يقول الله -تعالى- { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [محمد: 13، 14]. فالقرية التي أخرجته هي مكة . * ويخبر -سبحانه وتعالى- بأن هناك قرى قد أهلكهم الله لما كذبوا، ويخبر بالسبب، وهو أنهم زين لهم سوء أعمالهم، واتبعوا أهواءهم؛ فأعمالهم السيئة هي: الكفر، والكذب والتكذيب بالرسل، ورد ما جاءوا به، وكل ذلك فيه اتباع للأهواء. * وقد زين للبعض سوء عمله، واتبعوا أهواءهم، وقد أخبر الله -تعالى- بذم مثل هذا بقوله: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]. * فالذين يتبعون الهوى، لا شك أنهم قد استحسنوا العمل السيئ، واتبعوه، واستقبحوا الصالحات وتركوها، فصار الحسن عندهم قبيحا، والقبيح عندهم حسنا؛ فكانوا لذلك هالكين. * ولا بد أن زينت لهم الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، واتبعوا في ذلك أهواءهم. * وقد أخبر الله -تعالى- بأنهم لا يستوون مع غيرهم، يقول -تعالى- { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [محمد: 16]. * فذم الله الذين اتبعوا أهواءهم في هذه الآية؛ لأنهم لا يستفيدون مما يسمعون، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يعون أو يعقلون ما يرشدون به. * وذكر -تعالى- أنهـم يستمعون القرآن الذي هو غاية في الإعجاز والبلاغة والبيان، ولكن يُحال بينهم وبين فهمه وعقله؛ فكأنهم لا يسمعون أصلا، أو كأنهم قد حِيلَ بينهم وبين سماعه، فإذا خرجوا بعد سماعه يقولون لمن أوتي العلم: { مَاذَا قَالَ آنِفًا } [محمد: 16]. كأنهم ما سمعوا. * ما الذي حال بينهم وبين الفهم مع أن الكلام فصيح؟! ومع كونهم عربا ويفهمون ويعقلون؟ * إن الذي حال بينهم وبين ذلك ما ذكره الله عنهم أنهم اتبعوا أهواءهم؛ لأن الله -تعالى- طبع على قلوبهم، وطمس على معرفتهم حيث اتبعوا أهواءهم، فلم يستفيدوا. فإذا رأيت الذين يهربون من مجالس الذكر فقل: إنهم اتبعوا أهواءهم. * وإذا رأيت الذي يستمعون ولكن لا يستفيدون، فقل: هؤلاء من الذين اتبعوا أهواءهم، بل من الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم؛ حيث طمست معرفتهم التي وهبت لهم، فكانوا بذلك مثل ما ذكر الله عن المنافقين: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } [البقرة: 18]. معلوم أن لهم أسماع، ولكن لا ينفعهم ما يسمعون، ولهم أبصار، ولكن لا ينفعهم ما يقرءون أو ينظرون، ولهم عقول، ولكن لا ينفعهم ما يتعقلون. * هؤلاء هم نصيب النار الذين أعدهم الله لها، كما ذكرهم في قوله -تعالى- { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179]. * فهذا وصف الذين اتبعوا أهواءهم، يستمعون ولا يفهمون، يقرءون ولا يعتبرون، يعقلون ولا يتأملون، لم تنفعهم قلوبهم، وكذلك أبصارهم وأسماعهم، لم يستفيدوا بها. * يقول بعض المتأخرين في وصف من اتبعوا الهوى: "صمٌّ ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا..."!! عموا عن الحق، صُموا عن تدبره! ولكن ما الذي أعماهم؟! الهوى! ما الذي أصمّهم؟! الهوى! * ورد في بعض الآثار: "الهوى يعمي ويصم"؛ لما أنهم صار هواهم مخالفا لما جاء به الشرع.. أصم آذانهم، وأعمى أبصارهم، وأصبحوا كأنهم لا يستفيدون من حواسهم التي منحهم الله إياها. * وقد وصف الله الكافرين بقوله: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [البقرة: 171]. * يقول المفسرون: إن الله ضرب هذا المثل للكفار الذين حيل بينهم وبين فهم الحق، واتبعوا شهواتهم وميلهم، فضرب لهم مثلا بمن ينادي بهائم، كغنم ونحوها؛ فالنعيق هو نداء الغنم، والأغنام لا تدري ما تقول، ولكنها تسمع الصوت فتتبع ذلك الصوت. * وهذا مثل العصاة والطغاة، الذين يُدعون إلى الحق فلا يقبلونه، ولا يتقبلونه! كذلك يُدعون إلى الإيمان فيكفرون! * يُبين لهم الحق فلا يقبلونه، ولا يرضون بموعظة، ولا يقبلون إرشادا، ولا يتأثرون بتذكير، حال بينهم وبين ذلك كله اتباع أهواءهم، بسبب ميلهم إلى الشهوات والمحرمات. * ولقد ذكر الله -تعالى- أن الهوى من جملة المعبودات التي تُعبد، قال -تعالى- { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } [الجاثية: 23]. * أول أعماله أنه اتخذ إلهه هواه؛ فهو لا يهوى شيئا إلا ركبه، كلما منته نفسه بشيء لم يفكر هل هو خير أم شر؟ هل هو طاعة أم معصية؟ بل يقدم عليه ويقتحمه، ولو كان ذنبا كبيرا أو صغيرا. * ومثل هذا قد ضل وهو على علم ومعرفة ولكنه لم يقبل الخير؛ فأصبح من الضالين، بحيث أنه لا يقبل الإرشاد، ولا يقبل التذكير، بل إذا سمعه ابتعد عنه، وعن الطرق التي توصل الخير إلى قلبه. * وقد وصفه الله في آية أخرى بقوله -تعالى- { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } [لقمان:7]. ما الذي حمله على ذلك؟! * إذا سمع القرآن والمواعظ، وإذا مر بأهل مسجد أو مدرسة لا يتركه هواه بأن يجلس عندهم، بل يصد ويعرض؛ ويكاد أن يصم أذنيه مخافة أن يدخل عليه شيء يفسد عليه ميله وشهوته وهواه، { كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أي: ثقلا، لا يستفيد، ولا يسمع ما يفيده. * هذا وصف الذين يتبعون أهواءهم، ومن جملتهم المشركون الذين صدهم الهوى عن قبول رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك أعرضوا عنه، كما ذكر الله -تعالى- عنهم: { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [فصلت: 4، 5]. انظر كيف وصفوا أنفسهم بهذه الأوصاف، اعترافا منهم!! * لقد صدهم الهوى عما يدعوهم إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأن قلوبهم في أغطية لا يصل إليها الخير، ولا تتقبل الدعوة. { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [الأنعام: 25] اعترفوا بأنهم لا يسمعون، وكأن في آذانهم وقرا، ومن بيننا وبينك حجاب، يعني حاجز منيع يحجز كلامك عنا، ولا ننتفع به. * وهذا كما وقع في الأولين فإنه يقع في المتأخرين. فالذين ابتعدوا عن الخير وأهله هم الذين اتبعوا ما تهواه أنفسهم وما تميل إليه، والذين يميلون إلى الظن واتباع الهوى أقوالهم وأفعالهم ناتجة عن ذلك. * يقول -تعالى- { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [النجم: 27، 28]. * وهكذا ذكرهم في قوله -تعالى- { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } النجم: 21-23 * فالظن واتباعهم ما تهوى الأنفس هو الذي أوقعهم في الكفر والمعاصي.. وهذا نتيجة اتباع الهوى. * ولأجل ذلك ذكر الله -تعالى- أن الهوى معبود في موضعين من القرآن في سورة الفرقان في قوله -تعالى- { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } الفرقان: 43 وفى سورة الجاثية قوله -تعالى- { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } الجاثية: 23 * ففي هذين الموضعين ذكر الله -تعالى- أن الهوى إله، وتأليهه معناه تقديس القلوب وتعظيمها له. وقد ذكرنا أن العلماء فسروا ذلك بأنه لا يهوى شيئا إلا ركبه، وأنه ورد في الأثر: "ما تحت أديم السماء إله يُعبد أشد من هوى مُتبع". * فاتباع الهوى، والميل النفسي هو الذي يؤدي إلى ما نراه كثيرا مما هو واقع من كثير من الناس في هذه الأزمنة! * فالذين يصدون عن الخير وعن مَجالِسه اتبعوا أهواءهم، والذين يبغضون الجلساء الصالحين، ويألفون جلساء الشر والفسقة والعصاة.. هؤلاء ممن اتبعوا أهواءهم واتبعوا الشهوات.. * وهم في هذا لا ينظرون إلى تلك الشهوات من حيث تحريمها أو إباحتها، فجرتهم تلك الشهوات إلي الحرام؛ ولا شك أن ذلك نتيجة اتباعهم أهوائهم، ولو كان شرا. |