ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع: أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء وما ملك إلا بتمليك الله، ولا يتصرف إلا بإذن الله؛ فهو موحد ... إلخ. فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، وقد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فنحن نأخذه بالظاهر، فإن أفعاله تعبر عما في ضميره، ولو حاول تغييره لم يستطع، ثم نقول أيضا كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء؛ أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة ورزقا ومالا وولدا وصحة وغنى... إلخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده كما وصفه نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: { اللهم لا مانع لما أعطت ولا معطي لما منعت } رواه البخاري رقم 844 وغيره، عن المغيرة رضي الله عنه. وقد أخبر الله عن كل ما يدعي من دونه بأنهم { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } . وإن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء؛ أي الذين أعطاهم الله نوعا من التصرف والملكية؛ فهذا لا دليل عليه، وإنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم وتكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم، ولم يعطهم شيئا من حقه الذي هو الدعاء والعبادة والتأله، ولا ملّكهم رزق العباد، وهبة الأولاد، وشفاء الأسقام البدنية، وغفران الذنوب ونحوها، وعلى هذا فمن اعتقد في نبي أو ملك أو ولي أو أي مخلوق، أنه مفوض من الله في إهلاك من شاء، أو إعطاء من أراد، أو إدخاله جنة أو نارا؛ فقد صادم النصوص، وأشرك المخلوق في حق الخالق. فإن الله تعالى قال لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف خلقه وأفضلهم: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فإذا كان سيد الخلق وخاتم الرسل لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه، فكيف يهدي أبعد الخلق وأشقاهم إذا دعوه مع الله وصرفوا له ما لا يستحقه إلا الله؟ ولقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك؛ لأنه حق الله وحده، قال الله تعالى: { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } والرشد الهداية القلبية وإيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان فإنه وظيفته، ورسالته كما قال تعالى: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } . وقد أخبر بأنه يهدي إلى الحق أي يدل عليه كما قال عز وجل: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } والمراد هداية البيان والدلالة والإرشاد، فأثبت هداية البيان ونفى هداية التوفيق والإلهام وقبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال: إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية والإضلال والإعطاء والمنع والإحياء والإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون؛ فيرسل الرياح، ويثير السحب، وينزل المطر، وينبت النبات، ويخلق ويرزق، كل هذا جرأة على الله. وإنما جعل الله من معجزات عيسى بن مريم -عليه السلام- شيئا من ذلك بإذن الله، ثم انقطع برفعه إلى السماء، ولم يذكر الله تعالى أن أحدا من الأموات أو الغائبين يهدي من أحب، أو يرزق من يشاء بإذن الله، بل قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } . فهل يقال بعد هذا: إنه هو أو مَنْ دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع والضر والإعطاء والمنع، وأنه بناء على ذلك يُطلب منه كما يُطلب من الله؛ فيُدعى ويُرجى وتعلق عليه الآمال، ويخشع له العبد ويتواضع، ويقف أمام قبره خاضعا ذليلا وخائفا راجيا، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب؛ حيث أباح نداءه وجعله مالكا متصرفا فيما هو من خصائص الرب تعالى، وقد صح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعشيرته الأقربين: { أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا } وقال لعمه العباس: { لا أغني عنك من الله شيئا } رواه البخاري برقم 2753، عن أبى هريرة. . وهكذا قال لعمته ولابنته فاطمة الزهراء وأمرهم بأن يعملوا عملا صالحا لوجه الله ينقذون به أنفسهم من النار، ولا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال في حديث آخر: { ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه } من حديث أبي هريرة الطويل عند مسلم. وكل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملا خالصا لوجهه يكون سببا لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب ولا حسب ولا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله، أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئا، مع قول الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } وقوله: { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحدا من خلقه شيئا من حقه؟ أو فوض إليه التصرف في عباده، بأن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولقد قال تعالى: { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } وقال عز وجل: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ } ؛ أي لا أحد يتولى أمرهم ولا أحد يقدر على هدايتهم ولو توسلوا بالأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والأصفياء. والقصد من ذلك أن يقبل العباد بقلوبهم على ربهم، ويصدقوا الرغبة إليه، ويدعوه مخلصين له الدين، وينصرفوا بقلوبهم وأعمالهم عن كل مخلوق؛ تحقيقا لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب، كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . فهو أعلم بعباده، وهو المطلع على الضمائر والنيات، ويعلم ما تكنه الصدور وما توسوس به النفوس، ويعلم السر وأخفى، فكيف -مع ذلك- يعدِل عنه العباد؟ كيف يحتاج إلى من يعرفه بخلقه، كيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي؟! فالصدود عن الخالق إلى أحد من المخلوقين فيه غاية التنقص للرب عز وجل، وسوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين تعالى الله علوا كبيرا. |