[س 3] ما المقصود من قوله تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } الوفاة حقيقية أم لا؟ نرجو توضيح ذلك، أثابكم الله؟ الجواب: الصحيح أن الوفاة هنا هي النوم، أي أن الله رفعه إليه وهو نائم، فإن النوم يصدق عليه أنه وفاة أي شبيه بها، كما قال الله تعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } أي يتوفى الأحياء في المنام بحيث تفارقهم أرواحهم فراقا خاصا يفقدون فيه الإحساس والصوت والحركة الاختيارية، ثم تعود إليهم أرواحهم عند اليقظة. وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند النوم: { باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه؛ فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين } أخرجه البخاري برقم (7393) كتاب التوحيد، باب (السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم (714) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (ما يقول عند النوم وأخذ المضجع)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود برقم (5050) كتاب الأدب، باب (ما يقال عند النوم)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه برقم (3874) كتاب الدعاء، باب (ما يدعو به إذا آوى إلى فراشه)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (2 \ 246، 422، 432) عن أبي هريرة رضي الله عنه. . وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند القيام من النوم: { الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور } أخرجه البخاري برقم (7394) كتاب التوحيد، باب (السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها)، عن حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم برقم (2711) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب (ما يقول عند النوم وأخذ المضجع)، عن البراء رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود برقم (5049) كتاب الأدب، باب (ما يقال عند النوم)، عن حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه برقم (3880) كتاب الدعاء، باب (ما يدعو به إذا انتبه من الليل) عن حذيفة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند (5\ 385،387) من حديث حذيفة. . { الحمد لله الذي رد عليّ روحي وعافاني في جسدي } أخرجه الترمذي رقم (3398) كتاب الدعوات، والنسائي رقم (866) في عمل اليوم والليلة. وابن السني رقم (9)، وصححه النووي في الأذكار رقم (28)، وحسنه الألباني وهو في صحيح الكلم الطيب رقم (37). . فعلى هذا يكون المعنى: إني متوفيك وفاة نوم بحيث لا تشعر بالرفع إلى السماء، أي أنه رقد نوما عميقا ثم في حال نومه رفعه الله كما شاء، فلم يستيقظ إلا بعد ما رفع إلى السماء. وذهب آخرون إلى أنه توفي وفاة موت مدة يسيرة رفع فيها إلى السماء، ثم بعث وعاش الذي رجحه ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره: جامع البيان (2\ 265) إن أولى الأقوال بالصحة قول من قال: إني قابضك من الأرض ورافعك إلي لتواتر الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكرها. وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره؛ فتح القدير (1 \ 344): والصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزوله وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف. وقال مطر الوراق: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير إن وفاته: رفعه من الدنيا بحيث لا يكون من أهلها، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أهلها من الأكل والشرب والنوم واليقظة ونحو ذلك. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في أنه ينزل في آخر الزمان ويحكم بهده الشريعة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، واستدل على ذلك بقوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي قبل موت عيسى والله أعلم قال سماحة الإمام الشيخ \ عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية- رفع الله منزلته وأجزل له المثوبة - في مجموع الفتاوى: التوحيد وما يلحق به (1 \ 433): وقد اختلفوا في التوفي المذكور في قول الله -عز وجل-: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } على أقوال: أحدها: إن المراد بذلك وفاة الموت؛ لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة، ولأن ذلك قد تكرر في القرآن الكريم بهذا ا المعنى، مثل قوله تعالى: { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وقوله سبحانه وتعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } في آيات أخرى قد ذكر فيها التوفي بمعنى الموت، وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير. القول الثاني: معناه القبض، نقل ذلك ابن جرير في تفسيره عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه، وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء، وأنت حي ورافعك إلي. ومن هذا المعنى قول العرب: توفيت مالي من فلان، أي قبضته كله وافيا. القول الثالث: إن المراد بذلك وفاة النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، وقد دلت الأدلة على عدم موته -عليه السلام-، فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعا بين الأدلة كقوله -سبحانه وتعالى-: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } وقوله -عز وجل-: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } والقولان الأخيران أرجح من القول الأول، وبكل فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة، وتظاهرت عليه البراهين أنه -عليه الصلاة والسلام- رفع إلى السماء حيا، وأنه لم يمت، بل لم يزل حيا في السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان، ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه، المبينة في أحاديث صحيحة عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه، ومن هنا يعلم أن تفسير التوفي بالموت قول ضعيف مرجوح، وعلى فرض صحته فالمراد بذلك: التوفي الذي يكون بعد نزوله في آخر الزمان، فيكون ذكره في الآية قبل الرفع من باب المقدم ومعناه التأخير؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، كما نبه عليه أهل العلم. والله الموفق. وأما من زعم أنه قتل أو صلب فصريح القرآن يرد قوله ويبطله، وهكذا قول من قال: إنه لم يرفع إلى السماء، وإنما هاجر إلى كشمير وعاش بها طويلا ومات فيها بموت طبيعي، وإنه لا ينزل قبل الساعة، وإنما يأتي مثيله، فقوله ظاهر البطلان، بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى، والكذب عليه، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فإن المسيح -عليه السلام- لم ينزل إلى وقتنا هذا، وسوف ينزل في مستقبل الزمان، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . ومما تقدم يعلم السائل وغيره أن من قال: إن المسيح قتل أو صلب، أو قال: إنه هاجر إلى كشمير ومات بها موتا طبيعيا ولم يرفع إلى السماء، فقد أعظم على الله الفرية، بل هو مكذب لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، والواجب أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال، وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة، فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافرا. والأدلة على ذلك كثيرة معلومة؛ منها: قوله سبحانه في شأن عيسى -عليه السلام- في سورة النساء: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 157- 158] ومنها ما توافرت به الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حكما مقسطا، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وهي أحاديث متواترة مقطوع بصحتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجمع علماء الإسلام على تلقيها بالقبول والإيمان بما دلت عليه، وذكروا ذلك في كتب العقائد. فمن أنكرها متعلقا بأنها أخبار آحاد لا تفيد القطع، أو أولها على أن المراد بذلك تمسك الناس في آخر الزمان بأخلاق المسيح -عليه السلام- من الرحمة والعطف، وأخذ الناس بروح الشريعة ومقاصدها ولبابها لا بظواهرها، فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أئمة الإسلام؛ بل هو صريح في رد النصوص الثابتة المتواترة، وجناية على الشريعة الغراء، وجرأة شنيعة على الإسلام وأخبار المعصوم عليه الصلاة والسلام، وتحكيم للظن والهوى، وخروج عن جادة الحق والهدى. لا يقدم عليه من له قدم راسخ في علم الشريعة، وإيمان صادق بمن جاء بها وتعظيم لأحكامها ونصوصها، والقول بأن أحاديث المسيح أخبار آحاد لا تفيد القطع قول ظاهر الفساد؛ لأنها أحاديث كثيرة مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد، متنوعة الأسانيد والطرق، متعددة المخارج، قد توافرت فيها شروط التواتر؛ فكيف يجوز لمن له أدنى بصيرة في الشريعة أن يقول باطراحها وعدم الاعتماد عليها. ولو سلمنا أنها أخبار آحاد فليس كل أخبار الآحاد لا تفيد القطع؛ بل الصحيح الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن أخبار الآحاد إذا تعددت طرقها واستقامت أسانيدها، وسلمت من المعارض المقاوم تفيد القطع، والأحاديث في هذا الباب بهذا المعنى، فإنها أحاديث مقطوع بصحتها متعددة الطرق والمخارج، ليس في الباب ما يعارضها، فهي مفيدة للقطع سواء قلنا: إنها أخبار آحاد أو متواترة. وبذلك يعلم السائل وغيره بطلان هذه الشبهة وانحراف قائلها عن جادة الحق والصواب. وأشنع من ذلك وأعظم في البطلان والجرأة على الله سبحانه وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- قول من تأولها على غير ما دلت عليه، فإنه قد جمع بين تكذيب النصوص وإبطالها وعدم الإيمان بما دلت عليه من نزول عيسى -عليه السلام-، وحكمه بين الناس بالقسط، وقتله الدجال، وغير ذلك مما جاء في الأحاديث، نسبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أنصح الناس وأعلمهم بشريعة الله، إلى التمويه والتلبيس، وإرادة غير ما يظهر من كلامه وتدل عليه ألفاظه، وهذا غاية في الكذب والافتراء والغش للأمة الذي يجب أن يتنزه عنه مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا القول يشبه قول الملاحدة الذين نسبوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى التخييل والتلبيس لمصلحة الجمهور، وأنهم ما أرادوا مما قالوه الحقيقة. وقد رد عليهم أهل العلم والإيمان، وأبطلوا مقالاتهم بغاية البيان وساطع البرهان، فنعوذ بالله من زيغ القلوب والتباس الأمور ومضلات الفتن ونزغات الشيطان، ونسأله -عز وجل- أن يعصمنا والمسلمين من طاعة الهوى والشيطان، إنه على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونرجو أن يكون فيما ذكرناه مقنع للسائل وإيضاح للحق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. . |