الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه ترجمة موجزة، للعالم الرباني، سيد الحفاظ، وبحر العلوم، ومفتي الأمة، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وأدخله فسيح جناته. وقد نقلتها من بعض تراجم هذا العالم الجليل، وأكثر ما نقلت من ترجمة الإمام البزار لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: " الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ". علّها أن تكون مفيدة للمستفيدين وقدوة للمقتدين وحجة لمن قرأها وعرفها. اسمه ونسبه: هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الخضر بن تيمية النمري الحرَّاني الدمشقي مولده ومنشؤه: ولد شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- في حرّان في عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، وبقي بها إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل به والده- رحمه الله- إلى دمشق المحروسة، فنشأ بها أتم إنشاء وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه. وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة الفتاوى الكبرى (1/ 8). وختم القرآن صغيرا، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية، حتى برع في ذلك، مع ملازمة مجالس الذكر وسماع الأحاديث والآثار الفتاوى الكبرى (1/ 9). . غزارة علومه: ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها الفتاوى الكبرى (1/ 10). . ولقد أملى في تفسير: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]. مجلدا كبيرا. وقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]. نحو خمس وثلاثين كرّاسة، ولقد بلغني أي: الإمام البزّار، والإمام البزار ممن رأى وصحب شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-. أنه شرع في جمع تفسير لو أتمّه لبلغ خمسين مجلدا الفتاوى الكبرى (1/ 10). . ومن أعجب الأشياء في ذلك، أنه في محنته الأولى بمصر، لما أُخذ وسجن، وحيل بينه وبين كتبه، صنف عدة كتب صغارا وكبارا، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء، وأسماء المحدثين ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي فيها، وأي موضع هو منها. كل ذلك بديهة من حفظه؛ لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه. ونُقِّبت واختُبرت واعتُبرت فلم يوجد فيها خلل ولا تغيُّر، ومن جملتها كتاب: "الصارم المسلول على شاتم الرسول". وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به الفتاوى الكبرى (1/ 10/11). . مؤلفاته ومصنفاته: فإنه لا يقدر على إحصائها أحد؛ لأنها كثيرة جدا، كبارا وصغارا، وهي منشورة في البلدان. فمنها ما يبلغ اثني عشر مجلدا كـ: " تلخيص التلبيس على أساس التقديس "، ومنها ما يبلغ خمس مجلدات كـ: " منهاج الاستقامة والاعتدال "... إلخ الفتاوى الكبرى (1/ 11). . ومنها: كتاب: " تفسير سورة الإخلاص "، وكتاب: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "، وكتاب: " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، وكتاب: " الكلم الطيب "، وكتاب " منهاج الاستقامة"... إلخ الفتاوى الكبرى (1/ 11). . وغيرها من الكتب الكثيرة جدا، والتي لا يمكن استقصاؤها بيسر وسهولة. ذكر تعبده وزهده وورعه وتواضعه وغير ذلك: أما تعبده: فإنه قلّ أن سُمع بمثله؛ لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى الفتاوى الكبرى (1/ 17). . وإذا رأى منكرًا في طريقه أزاله، أو سمع جنازة سارع إلى الصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليها الفتاوى الكبرى (1/ 17). وكان في كل أسبوع يعود المرضى. أما ورعه: فكان في الغاية التي يُنتهى إليها في الورع؛ لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة الفتاوى الكبرى (1/ 20). . ولم يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدَّخرا دينارا ولا درهما ولا متاعا ولا طعاما، وإنما كانت بضاعة مدة حياته وميراثه بعد وفاته العلم الفتاوى الكبرى (1/ 20). . فانظر بعين الإنصاف إلى ما وُفِّق له هذا الإمام، وأُجري عليه ما أُقعد عنه غيره وخذل عن طلبه، لكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب الأسباب، ومن أعظم الأسباب لترك فضول الدنيا التخلي عن غير الضروري منها الفتاوى الكبرى (1/ 20) . . أما زهده في الدنيا ومتاعها: فلقد اتفق كل من رآه، خصوصا من أطال ملازمته، أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهورا، بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها. بل لو سئل عاميٌّ من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية -رحمة الله عليه-! الفتاوى الكبرى (1/ 20 ، 22). . فأين حاله هذه من أحوال بعض المنتسبين إلى العلم وليسوا من أهله، ممن قد أغراه الشيطان بالوقيعة فيه بقوله وفعله؟ أترى ما نظروا ببصائرهم إلى صفاتهم وصفاته، وسماتهم وسماته، وتحاسدهم في طلب الدنيا، وفراغه عنها، وتحاشدهم في الاستكثار منها، ومبالغته في الهرب منها، وخدمتهم الأمراء واختلافهم إلى أبوابهم، وذل الأمراء بين يديه...؟ إلى آخر ما ذكر الإمام البزار الفتاوى الكبرى (1/ 22). . أما عن تواضعه وإيثاره: فكان مع شدة تركه للدنيا ورفضه لها، وفقره فيها، وتقلُّله منها مؤثرا بما عساه يجده منها، قليلا كان أو كثيرا، جليلا أو حقيرا، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به، فقد كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئا نزع بعض ثيابه المحتاج إليه فيصل به الفقير الفتاوى الكبرى (1/ 22). . وحكى غير واحد ما اشتهر به من كثرة الإيثار، وتفقد المحتاجين والغرباء، ورقيقي الحال من الفقهاء والقراء، واجتهاده في مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لهم الفتاوى الكبرى (1/23). . وأما عن تواضعه: فما رأيت ولا سمعت يعني: الإمام البزار. بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني الصالح والفقير، وكان يُدْني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلي، زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنه ربّما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته، جبرًا لقلبه، وتقربا بذلك إلى ربه الفتاوى الكبرى (1/ 25) . . وكان متوسطا في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب؛ بحيث يرمق ويمدّ النظر إليه، ولا أطمارا ولا غليظة تُشهر حال لابسها ويميّز من عامة الناس بصفة خاصة يراه الناس فيها الفتاوى الكبرى (1/ 25) . . ذكر وفاته وكثرة من صلى عليه وشيَّعه: توفي -رحمه الله تعالى- ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة الحرام، وذلك من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وهو على حاله مجاهدًا في ذات الله تعالى، صابرا، محتسبا، لم يجبن، ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتراجع، بل كان إلى حين وفاته مشتغلا بالله عن جميع ما سواه الفتاوى الكبرى (1/ 38). فغسل وكفن ثم أخْرِجَتْ جنازته، فما هو إلا أن رآها الناس وأكبّوا عليها من كل جانب الفتاوى الكبرى (1/ 39) . . واتفق جماعة ممن حضر حينئذ وشاهد الناس والمصلين عليه، على أنهم يزيدون على خمسمائة ألف الفتاوى الكبرى (1/ 40). . وقال العارفون بالنقل والتاريخ: لم يُسمع بجنازة بمثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام أحمد به حنبل -رحمه الله- الفتاوى الكبرى (1/ 40). . وصدق الإمام أحمد بن حنبل حين قال هذه النقولات من كتاب تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية، في مقدمة المحققين. " قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز". فالبدعي يموت وربما لا يشعر بموته أحد، أما المجاهد في سبيل إحياء السنة، فموته يحدث ضجة في العالم. قال ابن القيم سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "ما يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة". قال ابن القيم وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه. فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنّا ذلك كله، وينقلب انشراحا، وقوة ويقينا وطمأنينة. وصدق الله العظيم إذ يقول: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس: 62- 64]. فجزاه الله أحسن الجزاء عن الإسلام والمسلمين، وسبحان من أعطاه ما أولاه، ومدّ بحسن التوفيق إلى ما هداه، وأعانه بالصبر الجميل إلى أن توفاه، ورضي عنه وأرضاه، ورزقنا وكافة المسلمين الحياة والموت على الكتاب والسنة حتى نلقاه، والاعتصام بهما في جميع ما نتلقاه الفتاوى الكبرى (1/ 41). . |