[أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة؛ أهل السنة والجماعة ] الشرح * قوله: (أما بعد). هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويؤتى بها في الغالب بعد مقدمة الخطب ونحوها. * قوله: (فهذا). إشارة إلى الشيء الذي تصوره في ذهنه، وعزم على إلقائه، يعني: على قاضي واسط وعلى طلابه، ثم على كتابته. * قوله: (اعتقاد). هو ما يعقد عليه الشخص ويدين به، والاعتقاد في اللغة مشتق من العقد الذي هو إثبات الشيء وإحكامه وتقويته، أما في الاصطلاح: فهو التصميم الجازم الذي ينشأ عن التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك. * قوله: (الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة). وصفهم بثلاث صفات هي: الأولى: أنهم ناجون. والثانية: أنهم منصورون إلى قيام الساعة. والثالثة: أنهم أهل السنة والجماعة. الفرقة: بكسر الفاء يعني: الطائفة من الناس، وذلك إشارة إلى قلتهم بين الناس، وأن الذين حولهم منحرفون عن ذلك. فإن أهل السنة في كل زمان هم الأقلون؛ ولذلك سُمُّوا فرقة، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في الحديث المشهور: { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك } أخرجه مسلم برقم (1920) في الإمارة، باب: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، " عن ثوبان رضي الله عنه. . الناجية أي: من بين الفرق الهالكة الذين ذكرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: { وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؛ قال: الجماعة } وفي رواية: { من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } والحديث له روايات أخرى، وهو حديث حسن صحيح. وسميت ناجية؛ لأنها تنجو من الشرك والبدع والمعاصي في الدنيا، وتنجو في الآخرة من العذاب. المنصورة إلى قيام الساعة، أي: المؤيدة على من خالفها بالحجة والبيان إلى أن تقوم الساعة، أي: ساعة موتهم، وسميت هذه الطائفة منصورة لأنهم لا يضرهـم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- . أهل السنة: السنة لغة: الطريقة أو السيرة. واصطلاحا لها عدة تفسيرات، الأول: هي أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: الأعمال المستحبة أو التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والمقصود بها هنا هي الطريقة المحمدية التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- في بيان الفرقة الناجية: { من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي } . الجماعة أي: المجتمعون على الحق، ولو كانوا قليلا بالنسبة إلى غيرهم، ولو كثر أعداؤهم وخصومهم، هؤلاء هم أهل السنة. يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في النونية انظر الكافية الشافية لابن القيم (النونية) ص 119 ، الأبيات رقم (1328 ، 1329 ، 1330). هــذا وســادسُ عشرها إجماعُ أهـ ل الحـقِّ أعني شيعــة الرضوان مـن كـل صـاحب سـنة شـهدت له أهـل الحـديث وعسـكر القـرآن لا عــبرة بمخـالف لهـــم ولــو كــانوا عديــد الشاء والبعران فقد يوجد من يخالف في كثير من الأزمنة، ولكن لا عبرة بهم، وكما قال ابن مسعود -رضي الله عنه- " الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ ". ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهل البدع، فأهل البدع كالجهمية متفرقون، والمعتزلة متفرقون، وغيرهم ممن ليس على الحق متفرقون، أما أهل السنة والجماعة فهم دائما مجتمعون حتى وإن حصل بينهم خلاف فإنه خلاف لا يؤثر ولا يضر؛ بل يعذر بعضهم بعضا حيث إنه خلاف بالدليل، ولا يضلل بعضهم بعضا، فتتسع صدورهم لهذا الخلاف. فأهل السنة والجماعة حقا هم الذين اعتقدوا واعتمدوا على ما جاءهم عن الله وعن رسوله، وتقبلوه بدون تردد، ولم يغيروا ولم يبدلوا شيئا من ذلك، ولم يبتدعوا، ولم يجعلوا مرجعهم الأول والأخير هو العقل، بل جعلوا ما جاء في الكتاب والسنة هو الحكم وهو المرجع وردوا ما خالفه. ويدخل في أهل السنة والجماعة: الصحابة، فإنهم أئمة أهل السنة والجماعة، فإنه لم تظهر فيهم ولا بينهم بدعة. ويدخل فيهم أيضا: جل التابعين، وهم تلاميذ الصحابة إلا من انحرف منهم، كالخوارج الذين قاتلهم علي -رضي الله عنه- وهم كلاب أهل النار لحديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الخوارج هم كلاب النار"، أخرجه ابن ماجه برقم (173)، وأحمد في المسند (4/ 355)، والطبراني في الكبير (8/ 324)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 438)، وانظر المشكاة للألباني (3554)، والسنة لابن أبي عاصم (904) و (905). وكالقدرية مجوس هذه الأمة، والجهمية، وإن كانوا قلة في ذلك الوقت. ويدخل فيهم أيضا: جل أتباع التابعين، فإن أتباع التابعين -غالبا- كلهم متمسك بالكتاب والسنة. وقد كانوا في القرن الثاني، وأدرك قليل منهم القرن الثالث. ويدخل فيهم أيضا: الأئمة الأربعة؛ الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهؤلاء كلهم داخلون في مسمى أهل السنة والجماعة، بل هم أئمة السنة. ويدخل فيهم أيضا الأئمة المقتدى بهم، وهم علماء الأمة، الذين اشتهرت كتبهم وتلقاها المسلمون بالقبول، كالإمام البخاري صاحب الصحيح، والإمام مسلم صاحب الصحيح، والإمام أبي داود صاحب السنن، والإمام الترمذي صاحب السنن، والإمام النسائي صاحب السن، والإمام ابن ماجه صاحب السنن، وغيرهم كثير من أصحاب الكتب المعروفة، وتلاميذهم ومشايخهم، كل هؤلاء من أهل السنة. ثم بعد ذلك في أكثر القرن الثالث وما بعده، خبت أصوات السنة وضعفت، وانتشرت البدع، وظهر المبتدعة، وراجت أسواقهم، فظهرت مقالة خبيثة وانتشرت بين الناس، وهو قولهم: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. ويقصدون بطريقة السلف: الإيمان بالآيات وأحاديث الصفات على ما جاءت عليه، بدون التعرض لتكييفها ولا تمثيلها ولا تأويلها. ويريدون بطريقة الخلف الخوض في معانيها وتحريفها (ويسمونه تأويلا). فزعموا أن الخلف أولوها حتى حملوها على محامل مستساغة في نظرهم، وأن السلف سكتوا عن الخوض في معانيها وقرءوها كما جاءت وأبقوها على ما هي عليه. فيقولون: السلف أسلم؛ حيث إنهم ما تكلموا بل فوضوا علم ذلك إلى الله، والخلف أعلم وأحكم؛ حيث أوتوا من العلم ما أزالوا به الشبهة وردوا على المخالف. والجواب عن ذلك بأن يقال: إن طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، فإن السلف ليس كما تظنون أيها المتأخرون أنهم يقرءون ألفاظا جوفاء ليس لها معاني، بل السلف يقرءونها ويعلمون معانيها، ويعتقدون مدلولها، إلا أنهم لا يشبهون الله بخلقه، ولا يعطلون أسماءه وصفاته، ولا يقولون: إن ظاهر هذه الأسماء والصفات كفر، وإنها تقتضي التشبيه، بل يعرفون أنها دالة على صفات حقيقة، إلا أنها ليس كصفات المخلوق، بل هي صفات تليق بالخالق جل وعلا. فقد شبه هؤلاء المتأخرون السلف الصالح بالأميين الذين قال الله فيهم: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [البقرة: 78]. يعني: إلا تلاوة، والسلف ليسوا كذلك، بل عندهم معرفة وفهم وإدراك للحقائق؛ ولهذا فإنهم -رحمهم الله- قرءوا النصوص التي جاءت، وفهموا معناها، وبينوها للناس أحسن بيان. ومن قرأ كتب السلف وأئمة أهل السنة والجماعة عرف ذلك، ولنضرب على ذلك مثلين: أحدهما: الإمام أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي وهو عالم جليل من أهل الشام ممن أدرك التابعين، يقول -رحمه الله- كنا والتابعون متوافرون نقول بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به الآيات من الصفات. فهذا دليل على أن أئمة السلف يؤمنون بمدلول هذه الآيات من العلو والفوقية، ونحوها. والثاني: الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك العالم الجليل -من أهل خراسان - قيل له: بماذا نعرف ربنا؛ فقال -رحمه الله- نعرفه بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه كما يليق به، ولا نقول كما تقول الجهمية. وهذا دليل آخر على أن السلف كانوا يؤمنون بمدلول هذه الآيات، وكذلك ما وقع من بعض الأئمة، لما أتي بمبتدع بل زنديق كان قد عرف بالزندقة، ثم أظهر التوبة -بعد ذلك- لما جاء به ليستتيبه. قال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال ذلك الزنديق: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه إلى السجن، فإنه لم يتب، وأشباه ذلك كثير. فمن هذا نعرف أن طريقة السلف أعلم وأحكم، فإنهم يقرءون النصوص ويؤمنون بمعناها، إلا أنهم ينفون عنها التحريف والتشبيه. أما الخلف الذين يزعمون أنهم أعلم وأحكم، فهؤلاء أهل الكلام الذين كثر في مسائل الدين اضطرابهم، أولئك المتكلمون الذين أخذوا أو ورثوا علم الكلام عن اليونان وعن الفلاسفة، وأخذوا عن أهل الكتاب ونحوهم، ثم دسوا ذلك في الإسلام، ثم تقعروا وأطالوا البحث في ذلك، فكانت نهايتهم الشك والحيرة والاضطراب، ولهذا قال بعضهم: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى ص 15. ؛ لأنه يموت أحدهم وهو على غير عقيدة. روي أن أحدهم دخل عليه بعض العامة وهو على فراش الموت، فقال: لذلك العامي: ما تعتقد؛ فقال: أعتقد أن الله ربي، وأنه على عرشه، وأنه بائن من خلقه، وأنه كذا وكذا. عند ذلك قال له ذلك المتكلم: هنيئا لك، لكني والله ما أدري ما أعتقد؟! وأخذ يكرر ويردد قوله: ما أدري ما أعتقد حتى غشي عليه ومات وهو لا يدري ماذا يعتقد، ومثله ما نقل عن الجويني صاحب " الورقات "، أنه قال: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم تدركني رحمة ربي فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى ص 15. وفي رواية: وها أنا أموت على عقيدة عجائز نساء نيسابور ؛ لأنه من أهل نيسابور في إيران ومثلهم أبو حامد الغزالي المشهور صاحب كتاب إحياء علوم الدين، هذا العالم كان في أول أمره مشتغلا بالفلسفة وعلم الكلام، حتى تمكن ذلك العلم منه، وفي أواخر حياته أراد التخلص منه فصعب عليه ذلك، مع أنه رد على الفلاسفة في كتاب مطبوع بعنوان (تهافت الفلاسفة)، ولكنه خاض في علم الفلسفة فبقي في قلبه شيء من آثار تلك العلوم التي خاض فيها، ثم ندم فيما بعد على اشتغاله بتلك العلوم، وقد ذكروا أنه -رحمه الله- مات، وصحيح البخاري على صدره، ونرجو من الله تعالى أن يتوب عليه. ومثله أيضا الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير المشهور، وله أيضا كتاب في العقيدة اسمه "تأسيس التقديس" الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب اسمه "نقض التأسيس". فهذا العالم الكبير المشهور كان قد تبحر وتقعر في علم الكلام، وبحث فيه وخاض غماره، حتى وقع فيما وقع فيه من قبله. يقول: " لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلا، ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق هي طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]. { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص: 88]. واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]. { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي " ثم قال: نهــايـة إقـدام العقـول عقـالُ وأكـثر سَعْيِ العــالمين ضـلالُ وأرواحنـا فـي وحشة من جسومنا وغايــة دنيانــا أذى ووبــال ولـم نستفد من بحثنـا طول عمرنا سـوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى ص 15. فعرفنا بذلك أن هؤلاء الذين يزعمون أن طريقة السلف أسلم، وطريقتهم أعلم وأحكم، أنهم هم أهل الحيرة والشك، وأهل الريب والتردد، فطريقة السلف هي الجامعة للأوصاف كلها، فهي الأسلم والأعلم والأحكم. والسلف -رحمهم الله- هم الذين ورثوا العلم، وورثوا العمل، وورثوا العقائد الصحيحة عن الصحابة والتابعين، فكانت عقائدهم سليمة صافية كما جاءت في الكتاب والسنة. وليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا. فعرفنا بذلك أن طريقة السلف هي التمسك بالوحيين، والسير على منهاجهما سواء في القول أو في العمل. ثم طريقتهم بلا شك هي المثمرة، فإنك متى عرفت الله تعالى بأسمائه وصفاته، كانت النتيجة من ذلك أنك تطيعه، وأنك تعبده، ومتى عرفت الرسل ووظائفهم، كان نتيجة هذه المعرفة هي أنك تتبعهم وتسير على نهجهم، ومتى عرفت القرآن وحرمته، وأنه منزل من لدن حكيم حميد، كان نتيجة ذلك أنك تتلوه حق تلاوته، وتصدق ما جاء فيه من الأخبار السابقة واللاحقة وأحكامه. فطريقة السلف هي المثمرة لسعادة الدارين، أما طريقة هؤلاء فإنها تضعف تصديقهم بالأمور الغيبية، فيقل انتفاعهم بالقرآن والسنة، فتقل أعمالهم وامتثالهم لأوامر الله؛ لأن الأعمال تعتمد على العقيدة، فإذا كانت العقيدة راسخة في القلوب، أثر ذلك في الجوارح، فعملت بطاعة الله، ومتى رأيت من يعصي الله ويجاهر بذلك، فإن ذلك يدل على ضعف عقيدته، وأنه ما عرف الله حق معرفته بآياته ومخلوقاته، ما عرف عظمة من يعصيه، ما عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكماله وجلاله وكبريائه وعظمته، ما عرف واعتقد أن الله يثيب الطائع ويعذب العاصي، أو أنه عرف ذلك ولكنه لم يستحضره، وذلك لضعف عقيدته ولضعف إيمانه. فعرفنا بذلك أهمية معرفة العقيدة الصحيحة السلفية عقيدة السلف الصالح، وأن أصحاب هذه العقيدة هم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة الفائزة بسعادة الدارين، الناجية من العذاب يوم القيامة، والمنصورة في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. |