[وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255]. أي: لا يكرثه ولا يثقله؛ ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح] . الشرح * قوله: (وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ). هذه الآية العظيمة من جوامع الكلم التي جمع الله فيها أيضا بين النفي والإثبات، وأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن { من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح } أخرجه البخاري برقم (5010) في فضائل القرآن، باب: " فضل سورة البقرة" . وما ذاك إلا لاشتمالها على جملة من صفات الله في تنزيهه وتقديسه. * ففي قوله: (الله لا إله إلا هو) إثبات الألوهية له سبحانه، ونفيها عما سواه يعني: لا تصلح الألوهية إلا له، ولا يستحقها أحد سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب يعني: تعظمه وتحبه، وذلك لا يكون إلا لله وحده، فلا يصح أن يكون غيره مألوها، أي: مبجلا معظما كتعظيم الله، ومحبوبا كمحبة الله أيا كان ذلك؛ لأن ما سواه سبحانه مخلوق، ولو كان عظيما أو وجيها عند الله، كأن يكون نبيا أو رسولا، أو ملكا مقربا، أو وليا، أو غير ذلك. * وفي قوله: { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الحي يعني: المتصف بأكمل أنواع الحياة، فإن حياة الإنسان وحياة البهائم حياة ناقصة؛ لأنا مسبوقة بعدم، ويطرأ عليها الانتهاء والانقطاع، وكذلك فإن الإنسان في حياته يحتاج إلى النوم، ويعتريه الإغماء والغشية والغفوة، ويعتريه الموت، فهي حياة ناقصة من جميع الوجوه، بخلاف حياة الرب تعالى، فهي حياة كاملة دائمة، لم يسبقها عدم ولا يعتريها عجز ولا نقص، فهو الحي بكامل الحياة سبحانه، كذلك القيوم: وهو القائم بنفسه المقيم لغيره من خلقه، فهو القائم على عباده على كل نفس بما كسبت، وهو القائم برزقهم وتربيتهم؛ وهو المراقب لهم والمطلع على أحوالهم، الذي لا يخفى عليه خافية من أمرهم، فهذا في الإثبات. * وفي قوله: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } السنة: النعاس، والنوم: معروف. وقد ورد في الحديث: { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام } أخرجه مسلم برقم (179) في الإيمان، باب: " في قوله عليه السلام: " إن الله لا ينام... عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. الحديث. وذلك لأنه يراقب خلقه بالليل والنهار، والنوم شبه الموت، فلأجل ذلك نزه الله تعالى نفسه عن النوم حتى لا يحصل اختلال في الكون؛ لأنه هو الذي يمسك جميع مخلوقاته العظيمة، ولو اختلت لم يمسكها غيره، يقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر: 41]. لو زالت واختل نظامها ما أمسكها أحد غيره. ويقول تعالى: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [الـحج:65]. فهو الذي يمسك هذه المخلوقات بقوته وقدرته، فلا تعتريه غفلة ولا نوم. ويقول تعالى: { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون: 17]. فقوله: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [البقرة: 255]. هو من باب النفي. * وفي قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [البقرة: 255]. أي: له الخلق كلهم الذين هم في العالم العلوي -السماوات- والذين في العالم السفلي- الأراضين- ملكا وخلقا واستعبادا، وهو خلقهم وحده، فهم عبيده، يعني: معبدون له لا لغيره، فهو المالك لهم ملكا وخلقا واستعبادا، فهذا من باب الإثبات. * وفي قوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]. أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه. والشفاعة: هي التوسط، والوساطة مأخوذة من الشفع، أي: لا يقدر النبي المرسل، ولا الملك المقرب، ولا الولي أن يشفع عند الله لأحد من الناس إلا إذا أذن الله له، وقال له: اشفع، فلا يشفع إلا لمن رضي الله عن عمله، وهم أهل التوحيد، كما قال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28]. وهذا من باب النفي. * وفي قوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [البقرة: 255]. في هذا إثبات صفة العلم وهي من صفات الكمال؛ لأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، فهو سبحانه العليم، ومن علمه أنه يعلم خبر ما قبلنا وما بعدنا وما بين أيدينا، يعني: ما سيحدث قدامنا في الزمن الحاضر والمستقبل من أمور الدنيا وغيرها، ويعلم ما خلفنا، يعني: ما يكون من أمور الدنيا في المستقبل، فهو -سبحانه- يعلم ما كان قبل خلقنا إلى ما لا نهاية له، كذلك ما كان بعدنا إلى ما لا نهاية له فالله سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. فهذا من باب الإثبات. * وفي قوله: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة: 255]. أي: أن جميع المخلوقين لا يعلمون من العلم إلا ما أعلمهم إياه، فلا يستطيعون أن يعلموا شيئا إلا إذا أعلمهم به وأطلعهم عليه سبحانه، ولا يستطيعون علم شيء زائد عما أعلمهم به سبحانه وتعالى. وعلم الغيب لا يعلمه إلا الله، كما في قوله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [الجن: 26، 27]. فهذا من باب النفي. *وفي قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } الكرسي: هو موضع قدمي الرب سبحانه كما يشاء، أو هو كالمرقاة بين يدي العرش، هكذا فسره السلف وهو مخلوق من مخلوقات الله تعالى العظيمة، وهو دون العرش، فأخبر الله تعالى أنه اتسع فشمل السماوات والأرض، فهذا يدل على عظمة هذا الكرسي فخالقه أعظم -سبحانه وتعالى- فرغم سعة السماوات والأرض، فالكرسي أكبر منها وأعظم، وقد ورد أن الكرسي { كالحلقة الملقاة في فلاة بالنسبة إلى العرش } أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش رقم (58)، والذهبي في العلو رقم (155)، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني رقم (159). وإذا كانت هذه عظمة الكرسي فالعرش أعظم منه، والكرسي أعظم من السماوات والأرض بل ورد في الحديث قوله: { ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس } ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتاب التوحيد. . والترس: هو المجن الذي يجعل على الرأس " وإذا كانت هذه عظمة الكرسي، فكيف تكون عظمة العرش وإذا كانت هذه عظمة العرش، فكيف تكون عظمة رب العرش؟! وإذا كانت هذه عظمة رب العرش، فكيف يستطيع أن يصفه الواصفون على حقيقته؟! أم كيف يعصيه هذا الإنسان الضعيف الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا ملكا ولا موتا، ولا حياة ولا نشور؟! فهذا معنى قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وهذا من باب الإثبات. * وفي قوله: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } فسر الشيخ يؤوده: بمعنى يكرثه ويثقله، أي: لا يشق عليه حفظ المخلوقات بأسرها، وعلى رأسها السماوات والأرض وما فيهن وما بينهما، فهو سبحانه يحفظها وليس في حفظها مشقة عليه ولا إعياء ولا تعب، فلا يكلفه ذلك ولا يثقله ولا يشق عليه، بل هو سهل عليه، ويسير عليه سبحانه، وهذا من باب النفي. *وفي قوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } ختم هذه الآية العظيمة، بإثبات صفتي العلو والعظمة، فإنه سبحانه عليٌّ على جميع خلقه، عظيم، بلغ في العظمة غايتها، فله العلو المطلق سبحانه وتعالى. ومنه علو الذات، فهو مستو على عرشه بائن من خلقه، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]. وعلو القهر، قال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18]. وعلو القدر، لأنه أرفع قدرا من كل ما سواه ولأنه القادر على كل شيء سبحانه، قال تعالى: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 120]. فهذا من باب الإثبات. فعلينا أن نعتقد ونؤمن بهذه الصفات التي مرت علينا في هذه الآية العظيمة، فإذا قرأت هذه الآية، فيجب عليك أن تستحضر ما فيها من الصفات العظيمة، فيكون ذلك زيادة في يقينك، ومتى زاد يقين العبد زادت أعماله وحسنت. والحاصل من هذه الآية أن الله تعالى قد جمع في أسمائه وصفاته بين النفي والإثبات، نفي النقائص والعيوب، وإثبات ضدها من الكمال ثم ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح أخرجه البخاري برقم (5010) في فضائل القرآن، باب: "فضل سورة البقرة" عن أبي هريرة رضي الله عنه. فهذا يدل على عظم هذه الآية وفضلها؟ بل هي أعظم آية في كتاب الله، كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب- رضي الله عنه- حينما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أعظم آية في كتاب الله، فقال أبي: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده على كتفه، وقال: { ليهنك العلم أبا المنذر } رواه مسلم أخرجه مسلم برقم (810) في صلاة المسافرين، باب: فضل سورة الكهف، وآية الكرسي" عن أبي بن كعب رضي الله عنه. والله أعلم. |