[قوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } [البقرة: 210]. { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [الأنعام: 158]. { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر: 21، 22]. { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا } [الفرقان: 25]. الشرح * قوله: (وقوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ). هذه الآيات فيها إثبات مجيء الله تعالى وإتيانه لفصل القضاء كما يشاء وكما يليق بجلاله، وقد جاءت بلفظ المجيء، وبلفظ الإتيان، فيجب إثبات هاتين الصفتين الفعليتين لله تعالى كما يليق بجلاله وكماله. * الآية الأولى: في سورة البقرة: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } . قال بعض السلف: إن الملائكة هي التي تأتي في ظلل من الغمام، والله تعالى يأتي فيما يشاء، ففرق بين إتيانه وإتيان الملائكة، فقال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، يعني: وتأتي الملائكة. وقيل: إن الظلل هي الملائكة، يعني: أنه يأتي، وكذلك الملائكة تأتي وكأنهم ظلل من الغمام، والغمام هو: قطع السحاب المتفرق الذي يكون ظلا دون الشمس، فشبه إتيان الملائكة بالغمام لكثرتهم، حيث إنهم يسدون الأفق. * أما الآية الثانية: في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [الأنعام: 158]. فهي أيضا صريحة في إتيان الله تعالى؛ لأنها جاءت بلفظ الإتيان، أو يأتي كما في قوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } يعني: هل ينتظر هؤلاء المكذبون الجاحدون إلا أن تنزل عليهم الملائكة بالعذاب في الدنيا، أو تأتيه الملائكة في الآخرة، وقوله: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } يعني هل ينتظرون إلا يوم القيامة الذي يأتي الله فيه لفصل القضاء ومحاسبة العباد، ففيه دليل على الفرق بين قوله: { أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } وقوله: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } فدل ذلك على إثبات إتيان الملائكة وإتيان الله سبحانه وتعالى. وقوله: { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } يعني: أو هل ينتظرون إلا أن تأتيهم عقوبة الله لهم، أو آياته المعجزات الباهرات التي يريها عباده، ثم بعد ذلك { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } . يعني: إذا أتت آية من آيات الله؛ فإنه يختم بعدها على الأعمال، فلا يقبل من نفس إيمانها بعد الكفر إذا لم تكن مؤمنة من قبل، بل كلٌّ يبقى على ما هو عليه من الإيمان أو الكفر قبل نزول أو ظهور تلك الآية ، وذلك لقرب قيام الساعة. وفسرت هذه الآية بأنها طلوع الشمس من مغربها، يعني: يوم تطلع الشمس من مغربها، هنالك في ذلك الوقت لا ينفع نفسا إيمانه؛ لأن الإيمان في ذلك الحين يكون قد انتهى واكتمل، فليس بعده إيمان؛ لأن الناس قد رأوا ذلك عيانا فلا ينفعهم الإيمان، فمن أراد أن يؤمن أو يزداد إيمانا بعد ظهور تلك الآية فلا يقبل منه ذلك ولا ينفعه، وقد ورد في الحديث: { إن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس؛ آمنوا كلهم أجمعون } قال النبي -صلى الله عليه وسلم- { فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } أخرجه البخاري برقم (6506) في الرقاق، باب: " 40 "، ومسلم برقم (157) في الإيمان، باب: "بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان "، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الحديث: { لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها } أخرجه أحمد في المسند (1/ 192) وصححه الألباني أثناء كلامه على الحديث رقم (1674) من السلسلة الصحيحة، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1/1671) ، إسناده صحيح. وفي حديث آخر، قال -صلى الله عليه وسلم- { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } أخرجه أبو داود برقم (2479) في الجهاد، وأحمد في المسند (4/ 99) ، والدارمي (2/ 239، 245) رقم (2513) ، وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 250 ، 251). والطبراني في الكبير (9/ 387) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7469) ، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (4/ 240) ، والمشكاة (2346) ، والإرواء (1208)، ويشهد له حديث أحمد السابق. . فدل ذلك على أنها إذا طلعت من مغربها انقطعت التوبة، وفيه حث الإنسان أن يستعجل ويبادر بالتوبة قبل أن يأتي وقت لا تقبل فيه توبته، فيندم على ذلك أشد الندم. * أما الآية الثالثة: في سورة الفجر، وهي قوله تعالى: { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر: 21، 22]. هذا أيضا في يوم القيامة، ومعنى قوله: { دكت } أي: رُصَّت ومدت كما في الآية الأخرى: { وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ } [الانشقاق: 3]. وقوله تعالى: { فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا } [طه: 106، 107]. فيوم القيامة تمد الأرض مدا كبيرا، بحيث تتسع للأولين والآخرين من الجن والإنس والملائكة، وكذلك تسوى بحيث تكون مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، لا ترى فيها خفضا ولا رفعا ولا قصرا ولا جبلا ولا شجرا. الشاهد قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } يعني: جاء الله وجنس الملك وهم الملائكة صفوفا، فهذه الآية فيها إثبات صفة المجيء لله تعالى. * أما الآية الرابعة: من سورة الفرقان، وهي قوله سبحانه: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا } [الفرقان: 25]. يعني: أنه في يوم القيامة تشقق السماء وتتقطع قطعا وتكون كأنها غمام لكثرة قطعها وتفاوتها. وقد ذكر الله تعالى في آيات أخرى أن السماوات تتقطع وتتفطر كما في قوله: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } [الانشقاق: ا]. وقوله: { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ } [الانفطار: ا]. وقوله: { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } [النبأ: 19]. وقوله: { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ } [المعارج: 18]. فالحاصل أن السماء تتقطع وتكون كالغمام، وينزل الملائكة الذين فيها: { وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا } [الفرقان: 25]. فدل ذلك على أن الملائكة ينزلون. نأخذ من هذه الآيات إثبات إتيان الله ومجيئه، وهاتان الصفتان من الصفات الفعلية الغيبية التي نؤمن بها ولا نكيفها، ولا نمثلها، بل نقول: إن الله تعالى يأتي كما يشاء وإن مجيئه يليق به، ولا يلزمنا من ذلك القول بأن العرش يخلو منه أو أنه لا يخلو، أو أن العرش يكون فوقه، أو أن يكون شيء من المخلوقات حاصرا له، تعالى الله عن ذلك. بل نقول: إن الرب تعالى أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من خلقه، وإذا أتى فلا يلزم أن يكون محاطا به، قال تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة: 255]. وقال: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه: 110]. فلا يحيط بالله شيء من خلقه، بل هو المحيط بهم كما في قوله تعالى: { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12]. ففي هذه الآيات إثبات المجيء. وكذلك ورد في أحاديث كثيرة إثبات المجيء والنزول ونحو ذلك، كحديث النزول: { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر... } أخرجه البخاري برقم (1145) في التهجد، باب: "الدعاء والصلاة من آخر الليل "، ومسلم برقم (758) في صلاة المسافرين، باب: "الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه " عن أبي هريرة رضي الله عنه. فأهل السنة يثبتون هاتين الصفتين، ويمرونهما كما جاءتا من غير تكييف أو تمثيل أو تعطيل. وأما المبتدعة: من أشعرية ومعتزلة وشيعة ونحوهم، فقد أنكروا مدلول هذه الآيات ونحوها، وقالوا: إن المراد إتيان أمره سبحانه، فلذا يقولون في الآية الأولى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله، وأن قوله: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } [الأنعام: 158]. أي: أمر ربك، وكذلك قوله: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر: 22]. أي: جاء أمر ربك، فيجعلون في الآية إضمارا، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنها لا تحتاج إلى مضمر، بل هي على ظاهرها كما هي، ولا يجوز التكلف في رد هذه النصوص، أو في تأويلها. واستدلوا على ضلالهم بمثل قوله تعالى في سورة النحل: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33]. ونقول: نعم، هذه صريحة في أن المراد بأمره يعني: عذابه { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ } يعني: بالعذاب { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } يعني: أن يأمر ربك بعذاب كصيحة أو رجفة أو ريح مهلكة وما أشبه ذلك، فهذا لا شك فيه ولا إشكال، أن تأتيهم الملائكة بالعذاب بأمر من الله، أو يأتي ربك بالعذاب، فهناك فرق بين قوله: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } وبين قوله: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } بالمضارع والمستقبل. وأما الآيات التي يأتي فيها الإتيان بلفظ الماضي، كقوله تعالى في قصة بني النضير في سورة الحشر: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الحشر: 2]. هنا المراد بقوله: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ } أي: بالعذاب، أتاهم الله بجنده وحزبه المفلحين فسلطهم عليهم، فحاصروهم وهزموهم، فمثل هذا ظاهر البيان؛ لأنه في الدنيا وبالماضي، فلا يحتاج إلى أن يقاس عليه ما هو من خصائص الغيب والأمور الأخروية. فهذه العقوبة التي تنزل بالناس في الدنيا مثل الريح أو الصيحة أو الرجفة، أو مثل الزلازل أو البراكين أو الخسف- يعني: خسف بعض الأماكن لتغير في باطن الأرض- كما يحدث في هذه الأيام- نقول: إن ذلك من أمر الله، ولا يستطيع أحد رده، ونقول للذين يعللون ذلك- يعني: الزلازل والبراكين- بأنها ظاهرة طبيعية أو نحو ذلك: عالجوها وأمسكوها بقوتكم وباختراعاتكم وأجهزتكم، فإذا كان بركانا في الأرض، فلماذا لا تمسكونه؟ أمسكوه حتى لا ترتجف الأرض وتتزلزل، أو اصرفوا وادفعوا هذه الريح حتى لا تقع البيوت وتقطع الأشجار، وردوها من حيث جاءت. فالحاصل أن ذلك كله من أمر الله، فهو سبحانه يسلط على عباده أنواعا وصنوفا من العذاب، وهذا في الدنيا كما تقدم. وأما قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } فهو في الآخرة، يأتي إتيانا يليق بجلاله وكماله كما يشاء، فلا نكيف ولا نمثل ولا نشبه مجيئه بمجيء الإنسان أو المخلوقات، ولا نقول: إنه إذا جاء يكون محصورا مجيئه في شيء من مخلوقاته، بل هو الذي { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه: 110]. { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة: 255]. |