[ وقوله { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6]. { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:75]. { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [الفتح: 15]. { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [الكهف:27]. ]. الشرح ذكرنا أن عقيدة أهل السنة أن الله متصف بالكلام وبأنه يتكلم إذا شاء، وأن من جملة أدلتهم: أن الله وصف نفسه بأنه نادى وينادي وناجى كما تقدم في قوله: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [مريم: 52]. والنداء لا يكون إلا بكلام، وكذلك النجاء والمناجاة لا تكون إلا بكلام مسموع، فإن المنادي ينادي ويرفع صوته. ومن الأدلة أيضا: ما روي أن رجلا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 352) وعزاه لابن جرير الطبري، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وابن مردويه، من طريق الصلت بن حكيم، عن رجل من الأنصار، عن أبيه عن جده، قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:.... " فذكر الحديث، والإسناد كما ترى فيه مجاهيل. ؟. فأنزل الله قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]. فمعنى قولهم: أقريب فنناجيه؟، يعني: إذا كان قريبا فإننا نناجيه، يعني: نسأله سرا بيننا وبينه، كالذي يكون بين المتناجيين، وإذا كان بعيدا رفعنا الصوت وناديناه بالدعاء، فأخبر تعالى بأنه قريب، ففرقوا بين النداء والمناجاة، فآيات النداء التي في القرآن بلغت سبعة مواضع أو ثمانية أغلبها في موسى أن الله ناداه، كقوله: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الشعراء: 10]. كما في سورة الشعراء، وقوله في سورة مريم: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } [مريم: 52]. وقوله في سورة النازعات: { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } [النازعات: 16]. كذلك في آدم قال تعالى: { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } [الأعراف: 22]. يعني: أن الله ناداهما، أي: آدم وزوجه، ناداهما فسمعا نداءه، وكلمهما فسمعا كلامه، فالنداء كلام. كذلك آيات النداء في الآخرة ثلاث آيات في سورة الصافات: قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: 62]. وقوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65]. هذا في يوم القيامة أخبر بأنه يناديهم، والنداء لا بد أن يكون بكلام مسموع، ويأتينا في الحديث أنه ينادي آدم بصوت يسمعه آدم فالنداء من أدلة إثبات صفة الكلام لله تعالى. وبعد أن عرفنا الأدلة على إثبات صفة الكلام، وأن الله متكلم، فعندنا آيات تتعلق بالقرآن، وأن القران من جملة كلام الله، وأن الله تكلم به حقيقة بخلاف من زعم أنه خلقه كما خلق غيره، فإن المعتزلة والجهمية ونحوهم لما اعتقدوا في الله عقيدة سيئة، ودفعوا عن الله تعالى صفات الكمال، ومن جملة ذلك أنهم نفوا عنه صفة الكلام، وجعلوا الكلام خاصا بالمخلوق، وادعوا أنه يحتاج إلى كذا وإلى كذا، وقاسوه على أنفسهم، قاسوه على ما يتكلمون به أو ما يعرفونه، وذلك دليل قصر الأفهام، فعند ذلك جاءهم القرآن، فلم يجدوا بدا من القول بأنه مخلوق، وأنكروا أن يكون القرآن كلام الله، فعند ذلك جادلهم أهل السنة، وتحدوهم بأن يأتوا بدليل يدل على أن القرآن مخلوق، أو يجيبوا على الأدلة التي تدل على أن القرآن كلام الله، فلم يجدوا إلا التأويلات البعيدة. * قوله: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } ) : فمن الأدلة على أن القرآن كلام الله هذه الآيات الأربع التي عندنا. * فالآية الأولى: في سورة التوبة، قول الله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة: 6]. ومن المعلوم أن الذي يسمع هو هذا القرآن الذي يقرؤه القارئ ويسمعه المستمع، فهو كلام الله، والآية نزلت في تأمين الداخل للاستماع، يعني: إذا أتى أحد من المشركين يريد أن يدخل في البلاد الإسلامية، فأعطه أمنا وأجره وأمنه من الناس أن يعتدوا عليه أو يقتلوه، حتى يدخل، لعله يسمع كلام الله، فمتى سمع كلام الله ربما يلين قلبه، ويهديه الله للإسلام، فهذا ونحوه دليل على أن القرآن كلام الله؛ لأنه هو الذي يسمع وسماه كلامه، وليس كلامه ككلام البشر، نحن نتكلم به ونقرؤه، ولكن تكلم الله به كما شاء، لا أنه مثل تكلمنا به. *الآية الثانية: قول الله تعالى في سورة البقرة: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:75]. يعني: قد كانوا فيما مضى يسمعون كلام الله المنزل على أنبيائه في التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب النبوية السماوية، يسمعونه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، يحرفونه تحريفا معنويا، أو تحريفا لفظيا. وهذا دليل على أن الكتب المنزلة على الأنبياء كلها كلام الله، فإن الله تعالى تكلم بالقرآن وتكلم بالتوراة، وتكلم بالإنجيل وبالزبور، وبصحف إبراهيم وبصحف موسى ونحوهم. * أما الآية الثالثة: فهي في قصة المنافقين من الأعراب؟ حيث قال تعالى: { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [الفتح: 15]. يعني: أن الله قد نهى المتخلفين عن اتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- كما في قوله تعالى: { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } [التوبة: 83]. فهذا فيه كلام من الله وإخبار بأنهم لا يخرجون، فهم يريدون أن يبدلوا كلام الله، فإذا رأوا الرسول انطلق إلى مغانم ليأخذها ويظفر بها، استأذنوا، وقالوا: دعونا نقاتل معكم، يريدون أن يبدلوا ذلك الكلام الذي أخبر الله به أنهم لا يخرجون، فأخبرهم يا محمد وقل لهم: لن تتبعونا { كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } فقوله: { كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ } هو تفسير لقوله: { كَلَامَ اللَّهِ } . فدل ذلك على أن الكلام هو القول، وأن معناه: كذلكم تكلم الله، وأن قوله: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } يعني: يريدون أن يبدلوا ما قاله الله في حقهم وعدم خروجهم، هذا ونحوه دليل على أن الله تعالى تكلم بهذا، وأنه عين كلام الله تعالى. * أما الآية الرابعة: فهي قوله تعالى في سورة الكهف: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [الكهف: 27]. ففيها الأمر بتلاوة كتاب الله، والمراد به هذا القرآن، أمر الله بتلاوته، والتلاوة: القراءة، يتلوه، يعني: يقرؤه في تدبر، يقرؤه على الناس، يقرؤه تعبدا؛ لأنه أوحاه الله إليك وأنزله: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } سماه كتابا؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ولأنه كتب بعد ذلك بالمصاحف، والكتاب: اسم لما يكتب، وأضافه إلى الله ثم قال: لا مبدل لكلماته، يعني: أن ما فيه هو كلام الله، ولا مبدل لكلام الله، وقد تقدم قوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنعام: 115]. فكذلك قوله هنا: { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يعني: لا مغير له، فصرح بأنه كلمات، وبأنه كلام الله. وقد اتفق الصحابة وأهل السنة من العلماء أن هذا القرآن الذي في مصاحف هو كلام الله؛ حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، كما يأتينا في هذه العقيدة إن شاء الله. وكذلك ذكروا أن هذا القرآن حروف وكلمات وجمل ومعاني، وكله من كلام الله، وأن من جحد منه شيئا، وأنكر أن يكون كلام الله، أو أنكر أن يكون من وحيه الذي أنزله على أنبيائه، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه أنكر شيئا أجمعت عليه الأمة وتلقته بالقبول، وأنكر شيئا من الذي تكفل الله تعالى بحفظه عن التغيير والتبديل. عرفت بذلك أن كلام الله من جملته هذا القرآن. واعلم بعد ذلك أن كلام الله ليس له نهاية، ولا يحيط به محيط، قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان: 27]. يعني: لو أن جميع الأشجار؛ ما في الأرض من شجرة، من أول الدنيا إلى آخرها، كانت أقلاما، وأن البحار السبعة كانت حبرا مدادا، فكتب بتلك الأقلام، وكتب بذلك المداد الذي هو سبعة البحار لتكسرت الأقلام قبل أن ينفد كلام الله، ولنفدت البحار قبل أن ينفد كلام الله؛ وذلك لأن كلام الله لا نهاية له، والمخلوق له بداية ونهاية. وهذا دليل صريح على أن القرآن كله من كلام الله، وواجب المسلم إذا عرف أنه كلام الله أن يحترمه، وأن يفرق بينه وبين كلام الناس، وأن يعمل بما أمر فيه، فيتلوه حق تلاوته، ويتدبره حق تدبره، ويقف عند عجائبه، ويؤمن بمتشابهه، ويعمل بمحكمه، ويصدق بما فيه، ولا يرد شيئا منه، ويعتقد أنه آية الله، ومعجزة نبيه التي أقام بها الحجة على قومه، وأنه محفوظ عن التغيير والتبديل، فإذا صدق بذلك، صدق عليه أنه آمن بالله وكتبه. |