[وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو: الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون؛ إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه] . لا تعارض بين القدر والشرع: [ومع ذلك، فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاههم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد] . (الشرح)* قوله: (وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو:...): هذه الدرجة الثانية من درجات القدر، وهي أيضا تتضمن شيئين: تتضمن مشيئة الله وقدرته، وتتضمن خلقه وإيجاده. الدرجة الأولى ذكرنا أنها تتضمن شيئين: العلم ثم الكتابة، والدرجة الثانية تتضمن شيئين كذلك: الإرادة والمشيئة، ثم تتضمن الخلق والإيجاد. فنؤمن بأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ونؤمن بعموم إرادة الله وعموم مشيئته . بمعنى أنه شاء وأراد كل ما في الوجود من الموجودات ولذلك وجدت، ولو لم يُرِدْهَا ما وُجِدَت وما خُلِقَتْ وما حصلت. وذلك داخل في عموم قدرته، فإن من تمام القدرة؛ أنه يكون هو الخالق، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه لا يقدر أحد على مخالفة ما قدَّره عليه؛ هذا من تمام الإيمان بالقدرة، فإذا آمن العبد بأن الله على كل شيء قدير دخل في قدرته كل الموجودات وكل المخلوقات، فلذلك يقول: آمنت بأن الله هو خالق كل شيء، هو الذي خلق ما فيه شر وما فيه ضرر وما فيه خير وغير ذلك. خلق الكفار وعلم أنهـم سيكفرون، وخلق السباع الضارية والعادية، وخلق الحشرات الضارة والسامة، وخلق الحيات ونحوها من ذوات السموم، وخلق المؤمنين والكفار، وخلق الأبرار والفجار، وخلق الصادقين والكاذبين، كل ذلك بخلقه وإيجاده، وهو داخل في عموم قدرته : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فاطر: 1] وداخل في عموم مشيئته: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان: 30]. فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا لا يكون في الوجود إلا ما يريد. ولا بد أن نعرف قبل ذلك أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية وإرادة شرعية . فالإرادة الكونية: هي التي يدخل فيها جميع الموجودات، من الكفر والطاعات، والمعاصي والإيمان. نقول: إنها كلها مرادة؛ كونًا وقدرًا. بمعنى أنه تعالى أرادها وأوجدها وخلقها وكوَّنَها بقدرته العامة التي لا يخرج عنها شيء فهو الذي مَكَّنَ العُصاة من المعاصي وأعطاهم القوة التي يُزَاولون بها أعمالهم من طاعات ومعاص، وحسنات وسيئات، ولو شاء لأعجزهم وحال بينهم وبين الكفر والفسق، فإن قدرته أقوى من قدرتهم، وقوتُهم خاضعة لقوة الله تعالى، وقد كثر تعليق الأمور الواقعة بمشيئة الله تعالى كما في قوله: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [الأنعام: 125] فهذه إرادة كونية بمعني المشيئة العامة كما في الدعاء المأثور: { ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن } أخرجه أبو داود برقم (5075). في الأدب، والنسائي في اليوم والليلة برقم (12). . وقد قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [التكوير: 28، 29] فقد أثبت لهم مشيئة ثم ربطها بمشيئته سبحانه، وكذا قوله تعالى: { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [المدثر: 55، 56] ؛ أي لا يحصل لهم تذكر إلا بعد مشيئة الله تعالى وإرادته الكونية القدرية التي يدخل فيها جميع الكائنات والحوادث من الطاعات والمعاصي. وقد أخبر تعالى أنه يهدي من يشاء فضلا منه وكرمًا، ويضل من يشاء عدلا منه تعالى، كما في قوله: { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } [الزمر: 36 - 37] ولكنه سبحانه علم من هو أهل للهداية فتفضل عليه، وأقبل بقلبه على الطاعة، ونوَّر بصيرته، وقرَّبه من الإيمان وأعانه عليه، كما علم الأشقياء وأهل الفساد فمكَّنهم من الكفر والفسوق بقدرته ولو شاء لهداهم أجمعين، ولا تكون قدرتهم أقوى من قدرته. أما الإرادة الدينية الشرعية: فهي أنه سبحانه أراد لعباده الصالحين الخير ويَسَّرَه لهم وأحب منهم الطاعة وحثَّهم عليها، والدليل على هذه الإرادة قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] أي عندما رخَّص لكم في الإفطار لمرض أو سفر، وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [النساء: 26- 28] وهذه الإرادة يدخل فيها جميع الطاعات والحسنات، فالله تعالى أراد من جميع الخلق أن يعبدوه ويطيعوه وأحب منهم أن يسلموا ويعملوا عملا صالحا { فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [النحل: 36]. فالإرادة الكونية القدرية يدخل فيها جميع الكائنات من الطاعات والمعاصي. فطاعة المطيع وإيمان المؤمن قد أراده الله كونًا وقدرا فحصل، وأراده دينا وشرعا وأحبه. وكفر الكافر ومعصيته قد أرادها الله كونا وقدرا فوُجِدَت، ولم يُرِدْهَا دينًا وشرعًا ولم يحبها. فالكونية تستلزم حصول مرادها دون محبته. والشرعية لا يلزم حصول مرادها ولكن يلزم محبته. فهو سبحانه أمر الناس كلهم بطاعته وطاعة رسوله وأحبها منهم وأرادها دينا وشرعا، ونهاهم عن معصيته وكرهها لهم ولم يردها دينا وشرعا. وأخبر سبحانه بأنه يحب المتقين ويريد منهم فعل التقوى مع أنه الذي أعانهم وقواهم، ويحب المحسنين والصابرين والمقسطين، ويريد من الخلق كلهم أن يتقوه ويحسنوا العمل ويقسطوا ويعدلوا، مع أنه الذي يوفقهم لذلك، كما أخبر بأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويثيبهم على ذلك وهو الذي هداهم ووفقهم، كما أخبر بأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يحب الكافرين مع أنه لو شاء لهداهم أجمعين، وأخبر بأنه لا يأمر بالفحشاء شرعا، ودينا، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد بل قد نهى عنه وتَوَعَّدَ عليه بالعقاب. |