لقد اشتهر هذا الإمام -رحمه الله ورضي عنه- وانتشرت أخباره، وذاع صيته في زمانه وبعده، وأحبته الخاصة والعامة، وعرف قدره، وصارت له بين الناس المنزلة الرفيعة من الاحترام والتوقير والتقديم، وما ذاك إلا لما تصدى له من نصر السنة وقمع البدعة، والصمود أمام الباطل، والدفاع عن الحق، والصبر على الأذى، من حبس وقيد وضرب وتعذيب في ذات الله لمحاولة صده عن الحق. وهكذا ما اشتهر به من قوة الذاكرة وسعة الحفظ للسنة، ومعرفة الصحيح والسقيم منها، وكذا سرعة الفهم واستحضار الدليل، فقد روي أنه كان يحفظ مليون حديث مسندة، كما ذكر ذلك الشاعر الصرصري -رحمه الله- بقوله: حوى ألف ألف من أحاديث أسندت وأثبتهــا حفظـا بقلـب محـصل أجـاب على سـتين ألف قضيـة بأخبرنـا لا عـن صحـائف نقـل وكـان إمامـا في الحديث وحجة لنقـد صحـيح ثــابت ومعلـل من قصيدته اللامية المشهورة في مدح الإمام أحمد وعلماء الحنابلة ومؤلفاتهم، كما ذكر بعضها في ترجمة الموفق أبي محمد في مقدمة المقنع، وأورد هذا القدر منها الشيخ ابن قاسم في ترجمة أحمد في مقدمة كتابه المسمى بالزهد. ومعتمد هذا الشاعر النقل الثابت عن أئمة هذا الشأن، فقد نقل القاضي أبو الحسين في الطبقات (1\6). عن أبي زرعة الرازي - وناهيك به في معرفة الحديث والرجال- أنه قال: حزرنا حفظ أحمد بن حنبل بالمذاكرة على سبعمائة ألف حديث، وفي لفظ آخر قال أبو زرعة كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث. فقيل له: وما يدريك؟ فقال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. ونقل أيضا (1\6). عن عبد الوهاب الوراق قال: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل قالوا له: وأيش الذي بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: أخبرنا وحدثنا، وأقوال العلماء في حقه أكثر من أن تتسع لها هذه المقدمة الوجيزة، ولما كان له هذا القدم الراسخ في العلم والفهم، وهذه المنزلة والمحبة في قلوب أهل السنة والحديث، لا جرم أصبح مقصدا لكل مستفيد، ومرجعا لكل سائل ومستفت، ومن ثم كثر تلامذته وأصحابه الذين يأخذون عنه، وانتشرت فتاواه وتنوقلت على الألسن، مع أنه قد نهى عن تقليده وتقليد غيره من الأئمة، وأمر أن يؤخذ من مآخذهم، ولكنه لم يكن ليكتم العلم الذي وهبه الله إياه، ويمنعه المحتاج لمعرفته. وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين (1\29). أصول مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- فذكر أنه: "أولا": يفتي بموجب النص الصريح ولا يعبأ بمن خالفه، فمتى ظفر في الباب بحديث صحيح لم يقدم عليه رأيا ولا قياسا، ولا قول أحد من الناس كائنا من كان. "وثانيا": إذا لم يقف على حديث صحيح في المسألة أفتى بما أفتى به الصحابة، ورجح موافقتهم على كل رأي أو قياس، والصحابة -رضي الله عنهم- أجل من أن يتخبطوا في الشرع بالظن، أو يخالفوا سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. "وثالثا": عندما يختلف النقل عن الصحابة في المسائل التي طريقها الاجتهاد فإنه يختار من أقوالهم ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة، فإن لم يترجح عنده شيء منها حكاها كما نقل له، ولم يجزم بقول. "ورابعا": الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، والمراد بالضعيف عند أحمد هو قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، لا أنه الباطل المردود، فهو يقدم هذا النوع على الرأي والقياس. "وخامسا": إذا لم يكن عنده في المسألة نص، ولا قول للصحابة أو واحد منهم، ولا أثر مرسل ولا ضعيف، عدل إلى القياس، فاستعمله للضرورة. فهذه الأصول الخمسة هي أصول فتاويه، وعليها مدارها، مع أنه -رحمه الله- كان يتوقف كثيرا لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة، أو لعدم إطلاعه في المسألة على نقل، ونقل عنه أبو داود و عبد الله بن أحمد التوقف كثيرا وقوله للسائل: لا أدري، سل غيري. وكل ذلك دليل تورعه وتحرجه وخوفه من الله أن يقول عليه بلا علم. |