يندر أن تمر بك مسألة في هذا الشرح ونحوه إلا وفيها روايتان أو روايات، أو قولان أو وجهان إلخ، وذلك شأن المسائل التي طريقها الاجتهاد والتي تتوارد عليها أدلة أو تعليلات متنوعة، فإن فقهاء المذهب قد أكثروا التصانيف في المسائل الفقهية، وبذلوا جهدهم في تتبع الروايات عن إمامهم في كل مسألة، وأفرد بعضهم المسائل الخلافية بالتأليف، فللشيخ أبي بكر عبد العزيز مؤلف سماه بالقولين، وللقاضي أبي يعلى كتاب كبير باسم الروايتين والوجهين، ومثله أيضا أو نحوه لابنه أبي الحسين وكذا لأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم، وحيث التزموا ذكر المسائل التي فيها أكثر من رواية فإنك تراهم يكثرون من الأمثلة ويطلق الكثير منهم الخلاف ولو تفاوتت الروايات من حيث الصحة والشهرة وكثرة الناقلين لبعضها، ولعل قصدهم من تكثير الروايات أن يتعود القارئ المستفيد على البحث والتنقيب لا طلب الراجح والمختار، وقد يكون قصدهم التوسعة على الناس، فإن وقوع هذه الخلافات عن الأئمة وفيما بينهم، في هذه الأحكام الفرعية توسعة من الله ورحمة بعباده، لما فيها من التنفيس على العباد، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مجموع الفتاوى (14\ 159). والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفضِ إلى شر عظيم، من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتابا سماه: كتاب الاختلاف، فقال الإمام أحمد -رحمه الله- سمه كتاب السعة. وإن كان الحق في نفس الأمر واحدا، فقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه، لما في ظهوره من الشدة عليه. انتهى. ونقل أيضا في الفتاوى (30\ 80). عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه قال: ما يسرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قولهم فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. ا هـ. لكن الاختلاف متى أفضى إلى نزاع بين الأمة وتقاطع وتدابر، أو إلى تعصب لبعض المذاهب، وتكلف في رد الصواب، كان مذموما، وعليه تحمل النواهي الواردة في القرآن كقوله تعالى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وقوله: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وقوله تعالى: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ونحوها من الآيات، وكقوله -صلى الله عليه وسلم- { لا تختلفوا فتختلف قلوبكم } قطعة من حديث أبي مسعود الأنصاري في تسوية الصفوف وفيه "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" الحديث، رواه مسلم (4\ 154) وأحمد (4\ 122) والنسائي (2\ 90) وابن ماجه (976) بنحوه، وروى أبو داود (664) والنسائي (2\90) عن البراء -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا وصدورنا ويقول: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وروى الترمذي (2\ 18) رقم (228) عن ابن مسعود نحوه. وقوله: { اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا } رواه البخاري (5060، 5061) ومسلم (16\ 218) عن جندب البجلي -رضي الله عنه- بنحوه. ذكر ذلك ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1\286). وغيره. |