يظهر بالتتبع أن الكثير من المسائل المدونة في كتب الفقهاء، كمختصر الخِرَقي وغيره لا تجد أفرادها منصوصة عن الإمام نفسه، وإنما خرجها أصحابه على قواعده، وألحقوها بما يشبهها من الوقائع التي نص عليها، والتخريج هو إلحاق مسألة لا يوجد فيها نص صريح عن الإمام أحمد بأخرى منصوص على حكمها، كقول الزركشي شارح مختصر الخرقي في التيمم: وخرج القاضي وطائفة البناء من رواية البناء في من سبقه الحدث، يعني أنه روي عن الإمام أن من سبقه الحدث بقيء أو رعاف فإنه ينصرف، وله أن يبني على ما مضى من صلاته، لحديث ضعيف في ذلك، رواه ابن ماجه عن عائشة فيلحق بذلك تخريجا من بطل تيممه بوجود الماء في أثناء الصلاة، فإنه ينصرف ويتوضأ ويبني على ما مضى، ويكمل ما بقي عليه، وأمثلة ذلك كثيرة. قال المرداوي في القاعدة التي في آخر الإنصاف (12\ 244). إن أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، جاز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة إلي الأخرى ، وقيل. إذا كان بعد الجد والبحث، والصحيح أنه لا يجوز كقول الشارح، وكما لو فرق بينهما، أو منع النقل والتخريج أو قرب الزمن، بحيث يظن أنه ذاكر حكم الأولى حين أفتى بالثانية، فعلى الجواز من شرطه أن لا يفضي إلى خرق الإجماع، قال في آداب المفتي: أو يدفع ما اتفق عليه الجم الغفير من العلماء، أو عارضه نص كتاب أو سنة، قال في الرعاية: وإن علم التأريخ ولم نجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له، جاز نقل حكم الثانية إلى الأولى في الأقيس ولا عكس، إلا أن نجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبة له، مع معرفة التأريخ، وإن جهل التأريخ جاز نقل حكم أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام ونحو ذلك إلى الأخرى في الأقيس، ولا عكس، إلا أن نجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له، مع معرفة التأريخ إلخ. ولقد اجتهد الفقهاء -رحمهم الله- وبذلوا وسعهم في تتبع الروايات، وفرض الوقائع وطلب الحكم عليها عن إمامهم من أقواله أو إشاراته، مع أن نص الإمام قد لا يكون صريحة في الحكم بالتحريم، كقوله: لا ينبغي هذا، أو أنا أكرهه إلخ. فالفقهاء -رحمهم الله- اضطروا إلى الجزم والبت بالإيجاب أو بالتحريم أو الكراهة أو الندب أو الإباحة، حسب اصطلاحهم، مع عزو الأصل إلى إمامهم، بعد أن عرفوا قاعدته في المسائل التي نص فيها، وعرفوا وقوفه مع الدليل، وبعده عن مخالفة النص الصحيح الصريح، وهذا ما أذى إليه اجتهادهم -رحمهم الله تعالى- ولهم خلاف في لازم قول الإمام، هل يصير قولا له أو لا؟ وفصَّل في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في مجموع الفتاوى (29\ 41). وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان: (أحدهما): لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجب أن يضاف إليه، إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذاهب الأئمة من هذا الباب. (الثاني): لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول، وهذا التفصيل في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما. ا هـ. ويعني باللازم ما يكون شبيها بالمسألة المنصوص عليها، فيلزم من قال بها أن يقول بما يشبهها ويشركها في العلّة، وإليك أيضا ما يوضح ذلك أكثر، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (35\ 288). والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم، لا بنفي ولا بإثبات، أو نص على نفيه، وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه، أو لم ينص، فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم، وخرجوا عنه خلاف ذلك المنصوص عنه لا تلك المسألة، مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء- يعني قوله أن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه؛ لأنه لا استثناء فيه، وعنه في الاستثناء روايتان- فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات، هل يسمى ذلك مذهبا أو لا يسمى، ولأصحابنا فيه خلاف مشهور، والتحقيق أن هذا قياس قوله ولازم قوله، فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله، بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حيث أمكن أن يلازمه اهـ. ومنه تعرف أن الكثير من الروايات والأوجه والتخريجات المختلفة في كتب المذهب هي مما استنبطه الفقهاء وألحقوها بمسائل قد تكون مثلها وقد لا تكون، ولا شك أن أجوبة الإمام أحمد وغيره مبنية على ما يرد إليه من المسائل التي أغلبها واقعية أو ذات أهمية في ذلك الزمان، فأنت ترى المسسألة الواحدة قد ينقلها عنه العدد الكثير من التلاميذ في أزمنة متباينة، بينما بعض المسائل لا يوجد فيها نص واحد، والبعض الثالث يرد عنه اختلاف في حكمه، أو توقف وعدم جزم بالجواب عنه، وما ذاك إلا للأهمية وقوة الدليل، وكثرة وقوع ذلك الأمر بين الناس أو عدم ذلك، ولكن العلماء الذين جاءوا متأخرين، وجدوا تلك المسائل مدونة واعتمدوها أحكاما عامة، وألحقوا بها ما يناسبها أو يوافقها في العلة والحكم، أخذا بالظاهر، وعدم اشتغال بالأسباب الخاصة، والمناسبات الخفية. وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (29\ 40). وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين، فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت، ويجيب لا بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر، وإذا كانت الأفراد مستوية، وكان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد، فقوله فيها واحد بلا خلاف، وإن كان مما قد يذهب إليه مجتهد، فقالت طائفة -منهم أبو الخطاب - لا يخرج، وقال الجمهور -كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله، ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا، وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض، مستحضرا لهما، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا له، ديوان كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك، مما قد يكون أهل الخبرة أعلم به من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم، وهذا الاختلاف لا عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، والجمهور يقولون: إن لله حكما في الباطن علمه العالم في إحدى المقالتين، ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق، واجتهاده في طلبه، هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله... أما أهل الأهواء فهم مذمومون في مناقضاتهم، لأنهم يتكلمون بغير علم اهـ. ملخصا. |