قد يقع قارئ كتب المذهب في حيرة، عندما يرى تعدد الروايات أو الأقوال في كل مسألة غالبا، دون تصريح بما هو الأرجح والمختار، وذلك أن المؤلفين في الفقه قد تنوّعوا في كتاباتهم، فمنهم من يقتصر على قول واحد يراه أولى وأرجح في نظره، كما فعل الخرقي في مختصره، و أبو الخطاب في الهداية، و أبو البركات في المحرر وغيرهم، فلا يذكرون الخلاف إلا نادرا، ومنهم من يذكر قولين أو أكثر ويكتفي بسرد الأقوال أو الروايات، دون تعليل أو دليل، وهناك آخرون ينقحون المسائل، ويقتصرون على المختار، مع بيان وجه الصواب فيه، وإن من أبرز هؤلاء شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- فهو وإن كان من علماء الحنابلة لا يتقيد بمذهب خاص، بل يختار القول الراجح، ويؤيد اختياره بالأدلة والتوجيهات المقنعة، بحيث لا يدع مقالا لقائل، وقد تبعه في اختياراته تلميذه ابن قيم الجوزية -رحمه الله- وزاد في نصرة شيخه وتوجيه اختياراته بما لا مزيد عليه، كما في مؤلفاته المشهورة، كزاد المعاد، وإعلام الموقعين، وغيرهما. ثم إن العلماء يتفاوتون في الترجيح وتقديم بعض الأقوال على بعض، فعلماء الحنابلة وفقهاء المذهب يقدمون الرواية التي يكثر ناقلوها عن الإمام أو يتفق على نقلها أخص أصحابه أو أقدمهم عنده، أو أحفظهم أو أشدهم عناية بتتبع أقواله وتدوينها ونقلها ونحو ذلك، قال المرداوي في الإنصاف (1\ 17) وإن كان الترجيح مختلفا بين الأصحاب في مسائل متجاذبة المأخذ، فالاعتماد في معرفة المذهب على ما قاله المصنف -يعني ابن قدامة - والمجد، والشارح، وصاحب الفروع، والقواعد الفقهية، والوجيز، والرعايتين، والنظم، والخلاصة، والشيخ تقي الدين و ابن عبدوس في تذكرته، فإنهم هذبوا كلام المتقدمين، ومهدوا قواعد المذهب بيقين، فإن اختلفوا فالمذهب ما قدمه صاحب الفروع فيه في معظم مسائله، فإن أطلق الخلاف أو كان من غير المعظم الذي قدمه فالمذهب ما اتفق عليه الشيخان، أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياراته، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو الغالب، فإن اختلفا فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد الفقهية، أو الشيخ تقي الدين وإلا فالمصنف لاسيما إن كان في الكافي، ثم المجد، فإن لم يكن لهما ولا لأحدهما في ذلك تصحيح، فصاحب القواعد الفقهية، ثم صاحب الوجيز، ثم صاحب الرعايتين، فإن اختلفا فالكبرى ثم الناظم، ثم صاحب الخلاصة، ثم تذكرة ابن عبدوس إلخ. ومنه تعرف أن صاحب الإنصاف كغيره من علماء الأصحاب، إنما يرجّحون بكثرة النقل، أو باستفاضته وشهرته، واختياره عند الأكثرين. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (20\ 227). وقد طلب منه أن يبين ما أشكل من كون بعض الكتب يذكر فيها روايتان، أو وجهان، ولا يذكر الأرجح والأصح كما في الكافي، والمحرر، والمقنع، والهداية، فلا ندري بأيهما نأخذ، فأجاب -رحمه الله- أما هذه الكتب فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى مثل التعليق للقاضي، والانتصار لأبي الخطاب وعمد الأدلة لابن عقيل وتعليق القاضي يعقوب البرزبيني وغير ذلك من الكتب التي يذكر فيها مسائل الخلاف يذكر فيها الراجح... ومما يعرف منه ذلك كتاب المغني للشيخ أبي محمد وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، و أحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين لهم بإحسان؛ ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا، كما يوجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى. إلى آخر كلامه -رحمه الله-. ومنه تعرف أن الترجيح بين أقوال الأئمة التي يغلب عليها الرأي والقياس والتعليل، إنما هو بشهرتها بين الفقهاء، وكثرة تداولها، سيّما في كتب أكابرهم الذين اعتنوا بتجريد الأقوال والجمع بينها، أما إذا تميز بعض تلك الأقوال أو الروايات بنص صحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن أكابر أصحابه الذين لازموه، وعرفوا سنّته، فلا شك في أرجحية ذلك، ووجوب تقديمه على أقوال الفقهاء وقياساتهم، وقد اشترط بعضهم لذلك أن يكون النص محكما صريح الدلالة لا يمكن تأويله، وأن لا يعارض بمثله ونحو ذلك، ولكن علماء الأمة قد نقّحوا الأدلة وجمعوا بينها، وأزالوا ما يوهم ظاهره التعارض، وأجابوا عن ما يوهم التخالف، وحملوه على محامل حسنة حسب اجتهادهم، فإن أصابوا ما في نفس الأمر فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور لهم. ومع ذلك فإن الباحث الذي يريد الحق ويقصد الصواب، قد يتوقف كثيرا في بعض المسائل، وقد يختار ما يجري به القدر، أو ما يراه عين المصلحة، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (10\ 472). وهذا كما أنه إذ تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئا، بل ما جرى به القدر أقروه ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين، فأما الترجيح بمجرد الاختيار فليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، لكن قال طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: إنه يخير بين المفتين المختلفين، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم... لكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين، مع حسن قصده، وعمارة قلبه بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والظواهر، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف اهـ. فهذه أنواع مما يحصل به ترجيح بعض الروايات على بعض، وأقواها الترجيح بقوة الدليل الشرعي، أو صراحته، أو ظهور المصلحة الملائمة لأهداف الشريعة. قال الشيخ ابن قاسم -رحمه الله- في مقدمة حاشية الروض المربع (1\ 15). وكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة الأربعة بلا ريب، فقد اتفقوا على أصول الأحكام، فإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه، خرجه على قواعد إمامه فهو مذهبه، وقد صرحوا بأن النصوص الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما فهموا من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يقال: قول هذا صواب دون قول هذا إلا بحجة، وأقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، وتذكر وتورد في المعارضات والالتباس. والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله، فإنهم قصدوا تجريد المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد، بل أنكروا على من خالف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كائنا من كان، ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف، فإن تعليلها بذلك علّة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر، وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس يسلكه إلا من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط اهـ. |