مس المصحف

قوله: [ومس المصحف ببشرته بلا حائل] فإن كان بحائل لم يحرم؛ لأن المس إذا للحائل. والأصل في ذلك قوله تعالى: { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } . وفي حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابا وفيه: { لا يمس القرآن إلا طاهر } رواه الأثرم، والدارقطني متصلا واحتج به أحمد وهو لمالك في الموطأ مرسلا صحيح: روي عن عدد من الصحابة، انظر: "الإرواء" (122). . الشرح: مس المصحف للمحدث مسألة خلافية أيضا، ولكن الدليل مع من أوجب الطهارة لمس المصحف، وذلك لأن المصحف له شرفه وفضله؛ لأن فيه كلام الله، فكان من احترامه ألا يمسه إلا من تطهر من الحدثين: الأصغر والأكبر؛ لأنه سيتقرب بتلاوته، ويرجع الثواب عليها. وقد قال تعالى { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } فهذه الآية دليل على أن المحدث لا يحل له مس المصحف؛ لأنه ليس بمتطهر وخالف في هذا الاستدلال كثير من العلماء وقالوا: ليس المراد بالآية المصحف، وإنما المراد الكتاب المكنون، وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه أقرب مذكور في الآية، فالقرآن مضطر في اللوح المحفوظ، وذاك اللوح لا يمسسه إلا المطهرون وهم الملائكة. وقالوا: هذا خبر وليس بأمر، أي أخبركم أنه لا يمسه إلا المطهرون. قالوا: والدليل على هذا قوله تعالى في سورة عبس: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } وهم الملائكة الذين يحملون تلك الصحف، أو يقومون عليها، وهي الألواح التي كتب فيها كلام الله. وقد استنبط ابن القيم في كتاب "التبيان في أقسام القرآن" (ص 141-144). من الآية السابقة أنها دليل على أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، وبين أنه إذا كان أصله لا يمسه إلا طاهر، فهكذا فرعه لا يمسه إلا طاهر، فإن الفرع له حكم الأصل. هذا استنباط ابن القيم نقله عن شيخه ابن تيمية حيث قال في الصدر السابق (ص 143) بعد أن ذكر عشرة أوجه على عدم جواز مس المحدث للمصحف (وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر، فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر). ونقول أيضا: إن في الآية ما يدل على ذلك؛ لأن الله قال بعد ذلك { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والتنزيل هو هذا القرآن المنزل، وقد ذكر تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، فكأنه يقوله: إن الذي ينبغي أن يمسه هو المطهر، أي المطهر من الشرك، ومن الأحداث. ومما يدل على هذا أيضا: ما جاء في قصة إسلام عمر -رضي الله عنه- وأنه أراد أن يأخذ الصحيفة التي مع أخته وزوجها وكان فيها شيء من القرآن، فمنعته أخته من ذلك، ولم تمكنه منه حتى يتطهر، فتطهر، فمكناه من ذلك لما رأيا فيه علامة الإسلام، والإقبال عليه انظر "الإصابة" لابن حجر (13\80)، وذكر أن الذي أخرجها (محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه). فهذا دليل على أنه قد اشتهر عندهم أن للقرآن حرمة حيث لا يمسه إلا الطاهر. ومن الأدلة على هذا أيضا: حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والذي فيه الكتاب الطويل الذي كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران حول أحكام الديات، والزكوات، ومما جاء فيه: { أن لا يمس القرآن إلا طاهر } . وهذا الكتاب قد احتفظ به آل أبي بكر بن محمد بن حزم فأصبح مرجعا لأهل المدينة، واشتهر عندهم بحيث تكفي شهرته عن إسناده، حيث تلقاه العلماء بالقبول، ونقله الإمام مالك في موطئه، فهذا دليل على ثقته بهذا الكتاب المشهور عند أهل مدينته. وقوله -صلى الله عليه وسلم- هذا الكتاب { أن لا يمس القرآن إلا طاهر } أي من الحدثين الأصغر والأكبر، وإن كان يطلق أيضا على الطهارة من الرجس، ومن الكفر؛ لأن الكفر نجس، لقوله تعالى { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } . لكن الطهارة في استعمال الشرع تنصرف إلى الطهارة من الحدث.