قوله: [فصل، المسكر المائع، وكذا الحشيشة] نجس، لقوله تعالى { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } الشرح: هذا الفصل وضعه المصنف لبيان الأعيان النجسة ؛ لأن النجس: إما أن يكون نجاسة عينية. وإما أن يكون نجاسة طارئة. وإما أن يكون نجاسة وصف، لا نجاسة عين. ويظهر هذا التفريق بالتمثيل التالي: القسم الأول: ما كانت نجاسته نجاسة عينية، مثل: الميتة والكلب ونحوها. يعني أن نجاستها لا تزول ولا تطهر بالغسل، فلو غسلت الميتة وكرر غسلها لم تطهر أبدا، وكذلك لو غسل الكلب وكرر غسله أيضا لم يطهر، وذلك لأن نجاسته عينية. القسم الثاني: ما كانت نجاسته نجاسة طارئة، وهو ما طرأ على محل طاهر: كالثوب الطاهر تطرأ عليه النجاسة، كدم أو بول أو نحو ذلك، فإن هذه النجاسة طارئة على محل طاهر، وهي تطهر بالقول. القسم الثالث: ما كانت نجاسته نجاسة وصف، وهو ما كانت نجاسته بخبث معنوي لا حسي؛ والأشياء توصف بالخبث في حالتين: فتارة يوصف الشيء بالخبث لمعنى فيه. وتارة يوصف الشيء بالخبث لعين فيه. مثال ذلك: المال الحرام؛ كالربا، أو الرشوة، أو المسروق، أو نحوه، فهذا مال موصوف بالخبث، ولكن خبثه ليس حسيا، إنما خبثه لمعنى في ذلك الكسب، أي لوجوه كسبه، فانتقل من كونه مالا طيبا إلى أن أصبح مالا خبيثا بسبب حرمة كسبه، وإلا فالمال واحد. وقد أطلق الله على كثير من الأموال المحرمة وصف الخبث في عدة آيات من القرآن، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } وقال: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } وقال { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } وقال -صلى الله عليه وسلم- { مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، وثمن الكلب خبيث } أخرجه البخاري (4\ 353)، ومسلم (1567). . إذا فقد وصف الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بعض المال بالخبث برغم أنه لا يختلف في عينه عن المال الحلال الطيب؛ لأن خبثه كان لأمر معنوي لا حسي، فيكون خبثا على ذلك البائع أو ذلك الكاسب، ولا يمتد الخبث إلى غيره، فلو رد هذا المال المسروق- مثلا- إلى صاحبه لرجع إلى ما كان عليه من الطهارة والطيب، ولو تصدق به رجع إلى ما كان عليه من الإباحة. ولأجل ذلك رجح ابن القيم في (زاد المعاد) (5\ 778). أن البغي إذا تابت من الزنا تتصدق بذلك الكسب؛ لأنه لا يجوز رده على الزاني، لئلا يجمع بين المنفعة والمال، فهو قد استوفى المنفعة فلا يجمع له بين العوض والمعوض، كما أنها لا يجوز أن تستمتع به لأنه كسب حرام. وهذا المال مال محترم، فلا يحرق- مثلا- من أجل التخلص منه، لأنه لا ذنب له، وليس له من خلاص إلا أن يصرف في مصالح المسلمين، فخبثه إنما هو من جهة دخوله على الزانية، فهو خبث طارئ لا عيني. والجمع بين قوله ابن القيم - رحمه الله- أن البغي تتصدق بمهر الزنا بها، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- { إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا } أخرجه مسلم (3\ 85). أن الطيب في الحديث بمعنى ما يثاب عليه الإنسان، ويحتسب به الأجر والثواب. فالإنسان إذا اكتست أموالا محرمة وقال سأتصدق بها، فإنه غير مأجور. ولكن إذا اكتسب ذلك، ثم أراد التوبة من هذا العمل السيئ، فإنه لا بد أن يخرج هذا المال من حوزته، وأن يصرفه في وجه من الوجوه النافعة للمسلمين. فقصده التخلص من الإثم، لا الثواب. وهكذا البغي التي تتوب من الزنا، تتخلص من مهر زناها بإنفاقه، وصرفه في منافع المسلمين، طلبا للتوبة، والفرار من الإثم. فالحاصل أن ما سبق أمثلة على النجس نجاسة عينية، أو وصفية، أو طارئة. والسؤال : هل نجاسة الخمر نجاسة عينية، أم نجاسة طارئة؟ اختلف العلماء!أ هذا على قولين: القول الأول : أن نجاستها نجاسة عينية، وعلى هذا القول عامة أهل العلم وهو مذهب الأئمة الأربعة، كما في "المجموع" للنووي (2\ 563)، وهو اختيار شيخ الإسلام أيضا، كما في "الاختيارات" (ص 23). واستدلوا بما يلي: 1- بوصفها بالخبث؛ بل إنها أم الخبائث، فإذا كانت كذلك فهي نجسة العين، فإذا وقعت على الثوب فهي كالبول وسائر النجاسات، ولو غسلت أو صب عليها الماء لم تطهر، وهكذا أيضا لا تصح الصلاة لحاملها؛ لأنها نجسة العين. 2- أن الله وصفها بالرجس، في قوله تعالى: { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } كما وصف بذلك الأنصاب والأزلام والميسر، والرجس هو النجس، ولهذا كانت نجسة العين. 3- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما روي عنة: { من باع الخمر فليشقص الخنازير } أخرجه أبو داود (3489). . والتشقيص هو القصب، أي ليقطعها. ومعلوم أن الخنازير نجسة العين، فقد جعل -صلى الله عليه وسلم- الذي يبيع الخمر ويصبها ويزنها ويقيسها مثل الذي يقطع لحوم الخنازير، فكلاهما متلوث بالنجاسة، فحينئذ تكون نجسة العين. 4- الأمر بإراقتها، فلو كانت طاهرة لما بودر بإراقتها وتشقيق ظروفها التي كانت فيها، وقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة وإذا بزقاق الخمر في أسواق المدينة، فدعا بسكين وشق به تلك الزقاق، ولم يأمرهم بتخليلها ولا بيعها، فدل هذا على أنها نجسة العين لا يجوز الانتفاع بها. القول الثاني : أن نجاستها نجاسة طارئة، واستدل أصحاب هذا القول بما يلي: 1- أن أصلها من شيء طاهر؛ لأنها مصنوعة من التمر، أو العنب، ونحوه، وقد روي أن ابن مسعود كان معه إناء فيه نبيذ (أي: تمر وماء) فطلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يناوله ما يتوضأ به، فقال: ليس معي إلا نبيذ، فقال: { ناولنيها، تمرة طيبة وماء طهور } أخرجه أحمد (1\ 450)، وأبو داود (1\ 66)، والترمذي (1\ 147)، وابن ماجه (1\135)، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1\422) (هذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه). فتوضأ منه، فهذا دليل على أن أصلها طاهر. هذا ما استدل به أصحاب هذا القول، ولعل القول بأن نجاستها نجاسة عينية هو القول المختار، وذلك لأن فيها العديد من الأوصاف السيئة التي أطلقت عليها، فهي تزيل العقل، وتذكر، ومحرمة، ورجس، وأم الخبائث، وما أشبه ذلك، فكل هذا اكسبها خبثا ونجاسة، والشيء الطيب والطاهر يستحيل إلى خبيث ونجس بتغير أصله، فالراجح إذن أن الخمر نجسة العين، وهو القول الذي نختاره، وهو الذي تؤيده ظواهر الأدلة. وعلى هذا فالذي يحملها لا صلاة له؛ لأنه كحامل البول ونحوه. وإذا وقعت الخمر على ثوب، أو بدن، أو بقعة، لزم تطهيرها، كما تطهر سائر النجاسات. وأما قولهم بأن الصحابة قد أراقوا الخمر في طرقات المدينة بعدما حرمت فليس فيه نص قاطع على أنهم وطؤها بأقدامهم، وصلوا ولم يغسلوا أقدامهم. ليس هناك نقل صحيح على ذلك، وإنما النص في أنها جرت في سكك المدينة. والناس كما هو معلوم لهم أبصار، فإذا مشوا لا بد أنهم يتقونها كما يتقون الأقذار التي تقع في الطرق. وأيضا لم يكن ذلك الفعل إلا مرة واحدة، أو في أيام متقاربة. وليس في هذا دليل على أنهم وطؤها، وصلوا بأقدامهم قبل غسلها. مسألة: قول الله تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } الآية دليل على أن الأنصاب والأزلام نجسة كالخمر؛ لأنه تعالى سماها رجسا، والرجس هو النجس. مسألة: الأطياب المعاصرة (الكولونيا) اختلف. فيها، فبعضهم ألحقها بالخمر، وبعضهم لم يلحقها بها. والخمر اسم لما يغطي العقل، مع ما يتصف به من النشوة، والطعم اللذيذ الذي يجتذب الناس إلى شربه، والتفكه به. وهذا الوصف ليس موجودا في الأطياب، ولو كانت تشرب من أناس لا يقصدون بذلك إلا الشكر، وإزالة العقل. فالصحيح أنها ليست بنجسة، ولو كانت ففكرة، أو مخدرة، أو مزيلة للعقل، لعدم انطباق وصف الخمر عليها من كل وجه. وأيضا فإن الكحول الموجود فيها قليل جدا، وقد ذاب واختلط بغيره مما أزال أثره، فلم يبق من أثره إلا القليل. هذا قوله من يقول بأنها لا تلحق بالخمر، وأنه يجوز التطيب بها، واستعمالها للعلاج، ونحو ذلك. وهناك من يقول بأن التوقي منها أحسن، لما فيها من الشبهة. والكحول والأطياب لم يتكلم فيها الأولون لأنها شيء جديد، فلأجل ذلك وقع فيها الاختلاف بين العلماء عندنا. والأولى التوقي عن الشيء الذي فيه نسبة كبيرة لمجاف منها أنها تبلغ حد الإسكار، وإن لم يكن وصف الخمر منطبقا عليها من كل وجه. مسألة : البنزين لا يلحق بالخمر لأنه ليس بمسكر إسكارا أصليا لما يلي: أولا: أنه ليس من الأشربة. ثانيا: أن طعمه ليس بلذيذ حتى يكون هناك ما يدفع إلى شربه. ثالثا: أن إسكاره ليس كإسكار الخمر، وإنما هو تغطية للفهم والعقل، فلأجل ذلك لا يلحق بالنجس، ولا يقال بأن من لمسه فقد لمس نجاسة. |