قوله: [لكن يعفى في الصلاة عن يسير منه لم ينقض الوضوء، إذا كان من حيوان طاهر في الحياة، ولو من دم حائض] في قول أكثر أهل العلم، وروي عن ابن عباس و أبي هريرة مرفوعا وغيرهما، ولم يعرف لهم نحالف، ولقول عائشة { يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض ثم ترى فيه قطرة من الدم فتقصعه بريقها- وفي رواية- تبله بريقها ثم تقصعه بظفرها } رواه أبو داود صحيح: أخرجه أبو داود (358) و (364). وهذا يدل على العفو؛ لأن الريق لا يطهره، ويتنجس به ظفرها، وهو إخبار عن دوام الفعل، ومثل هذا لا يخفى عليه -صلى الله عليه وسلم- قال في الشرح: وما بقي في اللحم من الدم معفو عنه لأنه إنما حرم الدم المسفوح، ولمشقة التحرز منه "الشرح الكبير" (1\148). . الشرح: في هذا أنه يعفى عن اليسير من الدم والقيح، والصديد، واليسير هو النقطة، والنقطتان، والثلاث، أي ما ليس بفاحش. فيعفى عنها إذا كانت على الثوب بهذه الشروط: أولا : أنها يسيرة لا تبلغ أن تكون فاحشة كبيرة. وثانيا : أنها من حيوان طاهر في الحياة، ولو من دم الحيض؛ لأن الإنسان طاهر في الحياة. ويلحق بذلك أيضا ما طهارته لأجل كثرة ملابسته، كالدواب التي حيهم بأنها ليست بنجسة كالهرة، ونحوها. فإذا كان ذلك الدم من حيوان نجس، فإنه لا يعفى عن يسيره، كدم الكلب، أو السبع، أو الطيور النجسة التي ليست بطاهرة في الحياة، كالتي تأكل الجيف، ونحوها. فهذه لا يعفى عن يسير دمها؛ لأننا مادمنا جعلنا جميع فضلاتها نجسة، فإن دمها من تلكم الفضلات. فما دام أن لحمها نجس، ولا يطهر بالتذكية، وكذلك روثها، ورجيعها، وفضلاتها، فكذلك دمها. فالذي يعفى عن يسير دمه هو أن يكون الحيوان طاهرا في الحياة، كدم مأكول اللحم، كبهيمة الأنعام. وكذلك دم الإنسان لأنه طاهر في الحياة. والدليل على العفو عن اليسير، كالنقطة ونحوها، هذا الحديث عن عائشة وهو أنها لا يكون لها، أو لإحدى زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا درع واحد تحيض فيه، وتصلي فيه، وأحيانا ترى فيه نقطة من الدم، فإذا رأتها لم يكن عندها ماء تنظفه بها، فتبله بريقها، وتقصعه بظفرها، يعني تحكه. فلو كانت النقطة تنجس لما طهرت بالريق، ولنجست الظفر. فهذا دليل على العفو عن اليسير. وقولها { ترى فيه قطرة } دليل على أنها لو رأت أكثر من ذلك لما تغافلت عن غسله، ولما اكتفت بالريق، بل لا بد أن تغسله، وهذا هو الأصل: أن الثوب إذا كان فيه شيء من دم الحيض فلا بد من غسله، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في دم الحيض يصيب الثوب { تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه } سبق تخريجه. يعني إذا كان كثيرا. أما إذا كان نقطة آو نحوها، فهذا مما يتساهل فيه. وهكذا مثله الدم الذي يكون في اللحم، أو على القدر؛ لأن الله قد حزم الدم المسفوح. والدم المسفوح هو السائل الذي يخرج من الدابة عند ذبحها، فيندفع ويسيل. وهي إذا ماتت قد يبقى في عروقها شيء من الدم اليسير الذي يتجمد، فيشق إخراجه، فلأجل ذلك يعفى عنه، وقد يبقى لونه في بعض اللحم، يعني حمرة ونحوها، بحيث لو غسل بالماء، أو غمس فيه لتغير الماء، فهذا أيضا مما يعفى عنه. وقد قال بعض السلف في قوله تعالى: { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لولا هذه الآية لتتبع الناس العروق من الذبيحة القائل هو: عكرمة، كما في "تفسير ابن كثير" (2\ 191). وهذا فيه مشقة. لكن الله تعالى ذكر أن الدم المحرم هو المسفوح، فعفا عما في العروق. فإذا ألقي اللحم في القذر، فظهر فيه أثر حمرة فهو مما يعفى عنه. وإذا رؤي دم متجمد في شيء من العروق، فهو أيضا مما يعفى عنه، لمشقة التحرز من ذلك. مسألة : قولهم "مازال المسلمون يصلون في جراحاتهم" القائل هو: الحسن البصري كما في البخاري ((1\ 336 فتح). محمول على أن جراحاتهم مستمرة، فمصلون وهي تسيل لأنهم لا يستطيعون إيقافها، فهي كسلس البول مثلا. ويستثنى من ذلك الشيء اليسير، فإنه غير ناقض- كما سبق- وفيه الآثار التي زويت عن بعض الصحابة من أن منهم من أدخل إصبعه في أنفه، فخرج على رأس إصبعه دم، فصلى ولم يتوضأ. ومنهم من بصق بصاقة فيها شيء من الدم ولم يتوضأ. ومنهم من عصر بثرة في جسده، فخرج منها دم سبق تخريج هذه الآثار. . فمثل هذه الآثار محمولة على الشيء اليسير الذي يتسامح فيه. وهذه الآثار دلت على أن الذي ينقض الوضوء، والذي لا تصح الصلاة معه هو الشيء الفاحش. ويعبر عنه بما يفحش في كل نفس إنسان، كما روي ذلك عن بعض الصحابة أنهم فسروا ذلك بما يستفحشه كل إنسان. واستفحاشه راجع إلى وسط الناس لا إلى أطرافهم، ونحوهم. فإن هناك أناسا من المترفين من يستفحش النقطة، أو بعض النقطة من الدم، فمثل هؤلاء لا عبرة بهم. وهناك من الناس مثل القصابين ونحوهم قد لا يستفحش الدم الكثير، ولو كان ثلث الثوب، أو ربعه. فهؤلاء أيضا لا عبرة بهم، وإنما العبرة بأغلب الناس ووسطهم. أما إذا كان على الثوب دم لو جمع لكان فاحشا، فإنه لا يصلي فيه. وبعضهم يستدل على طهارة الدم بأن الشهداء يدفنون في جراحاتهم، ودمائهم، برغم أننا مأمورون بتطهيرهم. ويقال جوابا عن هذا الاستدلال : أولا: أن لا تغسيلهم من ذلك مشقة كبيرة، فلذلك يدفنون في دمائهم. ثانيا: أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن دم الشهيد يكون يوم القيامة ريحه ريح المسك، ولونه لون الدم، فهذا الأمر خاص بهم دون غيرهم. ثالثا: أنه لا يضر دفن من عليه نجاسة؛ لأنه ليس من شروط الدفن أن يدفن الميت وقد أزيلت عنه كل النجاسات. |