نسبه: هو العلامة الورع الزاهد تذكرة السلف الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي التميمي النجدي الحنبلي وترجع أسرة آل سعدي إلى بني عمرو، أحد البطون الكبيرة من قبيلة تميم المشهورة. مولده: ولد الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- في مدينة عنيزة بالقصيم في اليوم الثاني عشر من شهر محرم، من السنة السابعة وثلاثمائة بعد الألف (1307هـ)، قبل وقعة (المليدا) الشهيرة بسنة واحدة. نشأته: نشأ يتيم الأبوين؛ إذ توفيت والدته سنة (1310 هـ) وعمره أربع سنين، وتوفي والده وعمره سبع سنين سنة (1313 هـ). فكفلته زوجة والده -رحمها الله- وأحبته أكثر من أولادها، ورعته حتى شب، ثم انتقل إلى بيت أخيه الأكبر حمد فقام برعايته وتربيته. وكان حمد رجلا صالحا، وهو من حملة القرآن ومن المعمرين. ولقد كان والد الشيخ عبد الرحمن من العلماء، وإماما لمسجد المسوكف بعنيزة وكان قد وصى ابنه حمدا برعاية أخيه الأصغر الشيخ عبد الرحمن وقد كانت نشأته مثارا للإعجاب والدهشة ولفت الأنظار؛ لذكائه ورغبته الشديدة في طلب العلم، كما كان محافظا على الصلوات الخمس مع الجماعة، حتى إنه خرج لصلاة الفجر صباح سطوة آل سليم، وكان عمره خمس عشرة سنة، وكان القصر فيه الرماة، وكان الناس متحصنين في منازلهم خوفا على أنفسهم، فقابل بعض الناس فخاطبوه، فقالوا: إلى أين تريد الذهاب؟ فقال: لصلاة الفجر!! فضربه حتى ألجأه إلى الانصراف إلى بيته، وعلى هذا كان حرصه على ألا تفوته صلاة واحدة في أشد الأزمات التي واجهته في عصره. طلبه للعلم: كما ذكرنا في نشأة الشيخ من حرصه على طلب العلم الشرعي، فقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل تمام الثانية عشرة من عمره، واهتم بطلب العلم على علماء بلده، وعلماء البلاد المجاورة لها، كما كان يستفيد من العلماء الذين يفدون، ومن يردون إلى بلده، كما جعل أوقاته كلها في تحصيله للعلم، حفظا وفهما ودراسة ومراجعة واستذكارا، حتى أدرك في صباه من العلم ما لا يدركه غيره في زمن طويل وقد كان لا يصرفه عن حلق الذكر ومجالس الدرس أي صارف، ولا يرده عن الدروس أي راد، إلا ما يكون في حال الضرورة، كما تعلم القراءة والكتابة في سن مبكرة، ثم انكب على العلم وانقطع له، ولم يشتغل بأي من الأعمال التجارية حرصا على طلب العلم. ولما لاحظ أقرانه في طلب العلم تقدمه عليهم، ونبوغه المبكر تتلمذوا عليه، وبدءوا يأخذون عنه العلم، وما إن تقدم به طلب العلم حتى فتح الله عليه آفاق العلم، فخرج عما اعتاد عليه علماء بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط، إذ تطلع إلى كتب متعددة من تفسير وحديث وغيره، وعني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وسار على نهجهما في اتباع الأدلة والاستنباط. وكان من شدة طلبه للعلم أن قرأ على مشايخ عصره في علم الحديث والمصطلح والأصول والفروع والتفسير وأصول الدين وعلوم العربية، وأكب على المطالعة في كتب الفقه والحديث طيلة حياته، وكان يحفظ كثيرا من المتون العلمية، كما كان واسع الاطلاع في كل جانب من جوانب الحياة التي تتعلق بحياته وحياة الناس؛ ليعرف حالاتهم، وليكون عنده الدراية الواعية التي يتمشى بها في حياته. ولا أدل على حرصه على طلب العلم من المؤلفات التي أورثها وتداولها طلبة العلم من بعده. وكان يميل كثيرا إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ولهذا جاء من تأليفه في التفسير والحديث وغيره ورد لا ينضب من العلم، ورفد لا يشح على متتبع لمؤلفاته. أخلاقه: منذ أن تربى وترعرع، كان صالحا محافظا على قواعد الدين ومحبا للخير والإحسان إلى الفقراء والضعفاء، كان ذكيا محبا للمناقشة ومتواضعا وطيب الأخلاق في معاملته للصغير والكبير والغني والفقير، وكان ورعا زاهدا، عرض عليه القضاء سنة (1360 هـ) فرفض ذلك لانشغاله بطلب العلم، كما كان عزيز النفس طلق الوجه لا ترى عليه سمات الغضب، محبا لأفعال الخير، وكان كثير الاجتماع بالعامة والخاصة، يشتاق لحديث جميع الناس لسهولة وبساطة تعامله مع الآخرين. ووصف بأنه أرق من النسيم وأعذب من السلسبيل، لا يعاتب على الهفوة، ولا يؤاخذ بالجفوة، ويتحبب إليه البعيد والقريب، وكان جوادا بماله ونفسه وعلمه وبكل ما يستطيع القيام به، فلا يبخل بشيء أبدا مهما كانت الظروف. وقد وضع الله له القبول في الأرض، وأعطاه محبة في القلوب، فكان الناس يحبونه محبة لا تقدر بثمن، وكان له زعامة شعبية في النفوس، فكانت كلمته مسموعة وأمره مطاعا في كل الأقوال والأعمال التي تصدر عنه. وكان مخلصا للعلم والدين، حريصا على مصالح المسلمين، راجيا من الله أن تكون مجتمعاتهم متمسكة بالدين. فكان كثيرا ما يتصل بالناس، ويتفقد أحوالهم، ويحل مشاكلهم، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال، ويحقق لهم الخير. فكان -رحمه الله- لين الجانب متواضعا، عليه وقار العلم والعبادة، تحس إذا جالسته كأنك مع أقرب الناس إليك لما تجده من الزهد والتواضع، ولم تقتصر أخلاقه على ذلك، بل كان لتلامذته وطلابه نصيب من ذلك. فكان في التدريس والتعليم من أحسن العلماء وأبلغهم، فكان مرتبا وقته، ومنظما درسه، يختار العلوم المثمرة والكتب النافعة، يشاور تلاميذه ويأخذ برأي الأكثرية منهم، وهم يحرصون على تلقي العلم عليه والانتفاع بمؤلفاته التي ألفها. وكان ذا جلد وصبر وقوة على ملازمة الدروس وعدم الضجر، صبورا على شدة البرد وعلى شدة الحر في الدروس والتعاليم، ولم يسمع عنه أنه تضجر مرة واحدة. إحسانه للناس: وسنذكر مثالا على إحسانه للناس، كما كان له من أفعال كثيرة حسنة جهرية وسرية لم تظهر إلا بعد وفاته، ومن الأمثلة السرية نذكر مثالا على ذلك: أن امرأة أرملة لها بيت سكنت فيه، ولحقها دين ورهنت البيت، وحيث إن المرأة ليس لها اكتساب تكتسبه لترد الدين الذي عليها، فإن الله لم يضيعها وجاءها من يقوم بكفايتها من وجوه الخير الذي سيوفي لها دينها، عن طريق الشيخ رحمه الله. فكان يعطيها مما يأتيه من أهل الخير ومن الصدقات التي كان الناس يعطونه إياها من كافة الجهات، ليقسمها على الفقراء والمحتاجين، وبذلك تعاهد أن يعطي تلك المرأة الأرملة كغيرها أرسالا. فكانت تدفع الكثير مما يأتيها لصاحب الدين وتبقي القليل، وما يأتيها من غير الشيخ تقتات به، فأخذت على تلك الحال مدة، فانقضى الدين الذي عليها وبقيت خالصة من الدين قبل أن يأتي الشيخ الأجل بأشهر مع أن الدين كان كثيرا. وعندما توفي الشيخ وظهر الخبر للمرأة بوفاته صارت ولا زالت تدعو الله بالمغفرة والرحمة لما قام به من العمل من جهتها، وهذا مثال يدل على حسن المعاملة للفقراء والمحتاجين والناس أجمعين. وهناك أمثلة، تدل على معاملته في أفعال الخير، ولكن يطول بنا المقام لذكر هذه الأمثلة ولو ذكرت هذه الأمثلة لأفضى بنا إلى التطويل، وإنما أتينا بهذا المثال لما يخفى على الناس من حسن معاملته. صفاته الخلقية: كان قصير القامة، ممتلئ الجسم، أبيض اللون مشربا بالحمرة، مدور الوجه طلقه، كثيف اللحية البيضاء، وقد ابيضت مع رأسه وهو صغير. كان شعره كثيفا وكانت الكثافة في شعر لحيته أقرب من رأسه وهو شاب وكذلك وهو كبير. يتلألأ وجهه كأنه فضة، وجهه حسن، عليه نور في غاية الحسن وصفاوة اللون، نير لا يرى إلا مبتسما أو بادية أسارير وجهه. علمه: بدأ طلب العلم -رحمه الله- في وقت مبكر، فحفظ القرآن عن ظهر قلب قبل تمام الثانية عشرة من عمره ولما كان عمره ثلاثا وعشرين سنة بدأ يوفق بين طلبه للعلم والتدريس فاستفاد وأفاد، وقد تلقى عنه الكثيرون وانتفعوا بعلمه واستمر على ذلك إلى سنة خمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة حتى صار الشيخ معول الطلبة في التعليم والاستفادة. وكما ذكرنا سابقا كلما تقدم به طلب العلم تفتحت أمامه آفاق العلم، لذا خرج عما اعتاد عليه علماء بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط، فتوسعت مداركه وتفتق ذهنه وتنوعت علومه من كتب التفسير والحديث والتوحيد، وأكب على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأنه لا يطعن في علماء المذاهب كبعض المتهوسين، وكان يميل إلى آراء شيخ الإسلام وتلميذه، وربما يخرج عنهما إذا قوي عنده الدليل ويجعل مذهب الإمام أحمد أساسا له إذا لم يتوفر خلافه. كما خرج من مرحلة التقليد إلى مرحلة الاجتهاد المقيد، فصار يرجح من الأقوال ما يرجحه الدليل ويصدقه التعليل، وكان إذا عرض عليه مسائل متعددة يجيب عليها باختصار غير مخل، وكانت فتاواه غير طويلة، فكانت سهلة، مما يدل على أنه سريع البديهة، قوي الذاكرة، سريع الكتابة بديع التحرير، ولهذا تجد في مؤلفاته الكثير مما يدل على ذلك من اتصافها بالأسلوب الشيق الذي يفهمه العامة والخاصة. وكان له الفضل في إنشاء مكتبة في مدينة عنيزة وكان ذلك سنة (1358 هـ). أبرز مشايخه: درس الشيخ -رحمه الله- على عدد من المشايخ، فأخذ العلوم والفنون المتنوعة، منهم: الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم من علماء بريدة وقرأ القرآن وحفظه على سليمان بن دامغ في مدرسته بأم خمار والشيخ إبراهيم بن حمد الجاسر أخذ عنه الحديث عندما عين قاضيا في عنيزة وجلس للتدريس فيها، والشيخ محمد بن عبد الكريم الشبل أخذ عنه الفقه والنحو، والشيخ صالح بن عثمان القاضي قاضي عنيزة أخذ عنه التوحيد والتفسير والفقه وأصوله والنحو، وهو أكثر من قرأ عليه ولازمه ملازمة أكثر من عشرين سنة، والشيخ عبد الله بن عائض العويضي الحربي والشيخ صعب بن عبد الله التويجري والشيخ علي محمد بن إبراهيم بن محمد السناني والشيخ علي بن ناصر أبو وادي قرأ عليه في الحديث والأمهات الست وأجازه في ذلك، والشيخ محمد الأمين محمود الشنقيطي نزيل الحجاز قديما ثم رحل إلى بلدة الزبير قرأ عليه التفسير والحديث ومصطلح الحديث أثناء وجوده بمدينة عنيزة "أخذ عنه سندا بالرواية"، والشيخ محمد بن الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد الله المانع مستشار المعارف بالمملكة العربية السعودية، وقد قرأ عليه في عنيزة وإبراهيم بن صالح بن إبراهيم القحطاني أبرز تلامذته: فأما تلاميذه فكثيرون لا يعدون بالأصابع، لكثرتهم وتعددهم لحضورهم لمجلس العلم والتفقه، فمنهم: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وهو الذي خلفه في التدريس والإفتاء في عنيزة وهو إمام المسجد الجامع الكبير بعنيزة ومدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم والشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل عضو هيئة كبار العلماء، وعضو الهيئة القضائية العليا في وزارة العدل، والشيخ علي بن حمد الصالحي وقد وكل إليه شيخه تدريس صغار الطلبة هو والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع في حدود عام 1360 هـ، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن صالح البسام عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية، والشيخ محمد بن منصور الزامل المدرس بالمعهد العلمي بعنيزة سابقا، والشيخ عبد الله بن محمد العوهلي المدرس بالمعهد العلمي بمكة المكرمة والشيخ حمد بن محمد البسام المدرس بالمعهد العلمي بعنيزة ثم درس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فرع القصيم وكان هو القارئ على الشيخ في الدرس، والشيخ سليمان بن صالح بن حمد بن بسام من أعيان عنيزة والشيخ محمد بن عثمان بن الشيخ صالح القاضي إمام مسجد أم خمار، والشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان المدرس بمعهد إمام الدعوة بالرياض وقد سلك طريقة شيخه بالتأليف، والبعد عن الدنيا، والشيخ عبد الرحمن بن عقيل قاضي جيزان والشيخ محمد العبد الرحمن العبدلي والشيخ عبد الله العبد العزيز المطوع شقيق الشيخ محمد المطوع أثنى عليه زملاؤه من تلامذة الشيخ عمر بن سليم إذ كان قد قرأ على الشيخ عمر وصحبه في بعض أسفاره، والشيخ محمد بن عبد الله بن مانع والشيخ علي بن محمد بن زامل آل سليم، وهو أعلم أهل نجد في زماننا هذا بالنحو، مدرس في معهد عنيزة سابقا، وهو الآن مدرس في كلية الشريعة في القصيم والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد البسام وكان أحسن تلاميذه في إعادة الدرس بعد إلقائه من الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن محمد البسام وهو النائب عن شيخه في حياته في الإمامة والخطابة، والشيخ عبد الله بن حسن آل بريكان، وهو مدرس بالمعهد العلمي بعنيزة والشيخ محمد بن سليمان بن عبد العزيز البسام يقيم في مكة المكرمة ومدرس في الحرم المكي الشريف، وكان من أخص أصحابه، والشيخ عبد المحسن الخريدلي ولي القضاء في جيزان وغيرهم كثير وكثير. أهم مؤلفاته: كان من مؤلفاته -رحمه الله- العديد من الكتب والرسائل والفتاوى، بعضها قد طبع والبعض الآخر لم يطبع بعد، وقد استهدف في تأليفه نشر العلم كما تعلمه من العلوم المختلفة من خلال الكتب التي ألفها والتي جمع بعضها بعد وفاته، وهي بخط يده ومنها: 1- تفسير القرآن الكريم المسمى (تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن). 2- "الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين" وهو توضيح لنونية الإمام ابن القيم رحمه الله. 3- "منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين" (ط)، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا. 4- "طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول" (ط). 5- "الدين الصحيح يحل جميع المشاكل" (ط). 6- "التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة". 7- "إرشاد أولي الألباب، لمعرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب"، وقد رتب على طريقة السؤال والجواب. 8- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار" وهو شرح لتسعة وتسعين حديثا. 9- " توضيح الكافية الشافية" (نونية ابن القيم المشهورة)، وهو شرح لكثير من محتوياتها، طبع بالمطبعة السلفية، في القاهرة. 10- "الخطب على المناسبات" وهي خلاف الخطب العصرية القيمة. 11- "الدرة البهية، شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية" لابن تيمية 12- "رسالة لطيفة جامعة، في أصول الفقه المهمة". 13- "القواعد والأصول الجامعة، والفروق والتقاسيم البديعة النافعة". 14- "القواعد الحسان لتفسير القرآن". 15- "تنزيه الدين وحملته ورجاله، مما افتراه القصيمي في أغلاله". 16- "وجوب التعاون بين المسلمين، وموضوع الجهاد الديني". 17- "القول السديد في مقاصد التوحيد". 18- "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن". 19- "الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين" رسالة. 20- "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان". رسالة. 21- "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة". مختصر. مرضه ووفاته: أصيب -رحمه الله- عام واحد وسبعين وثلاثمائة وألف (1371 هـ) بمرض ضغط الدم وضيق الشرايين، "فكان يعتريه المرة بعد الأخرى وهو صابر عليه مدة خمس سنوات فزاد عليه أخيرا". فكانت أعراضه ظاهرة عليه أحيانا من خلال الكلام فقد يقف ولو كان يقرأ القرآن ثم يتكلم ويرجع إلى حالته الطبيعية، فسافر إلى لبنان سنة (1372 هـ) على نفقة الدولة، فأرسلت إليه طائرة تحمل لجنة من الأطباء المهرة لتشخيص المرض، وبعد أن وصل الأطباء رأوا أن يسافر الشيخ إلى لبنان ليتلقى العلاج هناك؛ إذ كان العلاج غير متوفر في السعودية آنذاك، فسافر إليها، وجلس فيها نحوا من شهر حتى شفاه الله، هذا وقد استفاد من رحلته تلك، بالإضافة إلى العلاج فوائد علمية، فقد تعرف خلال المدة التي قضاها في لبنان على عدد من علمائها وفضلائها "منهم الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني ". [ثم عاد إلى عنيزة ليكمل عمله وتدريسه مع أن الأطباء نصحوه بأن لا يجهد نفسه، وأن يعطي لنفسه الراحة وقلة التفكير، لكنه لم يصبر على ترك العلم، وبدأ التعليم والتأليف والبحث مرة أخرى]. ولكن ما لبث أن عاوده المرض مرة ثانية أشد مما كان عليه من قبل، وفي ليلة الأربعاء 22 من شهر جمادى الآخرة سنة (1376 هـ)، أحس بشيء في جسمه مثل البرد والقشعريرة، وبعد أن أكمل الدرس للطلاب أتم صلاة العشاء الآخرة إماما، وبعد السلام أحس بثقل وضعف، فأشار إلى بعض تلاميذه أن يمسك بيده ويذهب به إلى بيته، ففزع لذلك أناس آخرون من الذين حضروا للصلاة، وما إن وصل الشيخ إلى بيته حتى أغمي عليه، ثم أفاق بعد ذلك وذكر الله وأثنى عليه وحمده، وتكلم مع الموجودين عنده بكلام حسن، وبعد ذلك عاوده الإغماء مرة أخرى فلم يتكلم. وفي الصباح قرر الطبيب بعد الكشف أن هناك نزيفا في المخ، وقال: إن لم يدرك العلاج سريعا فإنه معرض للموت، فهرع أهل عنيزة لذلك، وقاموا بإرسال برقية إلى جلالة الملك " فيصل بن عبد العزيز آل سعود " عاجلة جدا فأصدر أمره بعدها بأن تقوم طائرة فيها مهرة من الأطباء إلى مدينة عنيزة لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في المطار لأن السماء كانت ملبدة بالغيوم، وكان الرعد والبرق والريح شديدا، فتأخرت جدا في الهبوط، وكان قضاء الله على الشيخ قد سبق كل شيء، فتوفي -رحمه الله- قبيل فجر يوم الخميس الموافق 22 جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف (1376 هـ). وما أن علم الناس بوفاة الشيخ حتى أصيبوا بذعر وحزن شديد، فسالت الدموع، وحزنت القلوب، وبكى الصغير والكبير والقريب والبعيد، وكان ذلك اليوم مشهودا في تاريخ مدينة عنيزة لما صاحب ذلك اليوم من حزن، وكان يوما لا تكاد الأقلام تعبر فيه عما تكنه الصدور، فكان يوما لا يوصف، لما كان فيه الناس من الأحوال السيئة لوفاة هذا الشيخ الجليل. ثم صلي عليه بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير بعنيزة يوم الخميس، وكان الناس في حشد عظيم امتلأ الجامع بهم، ولم تشهد عنيزة من قبل تلك الجموع من المصلين الوافدين والمشيعين للصلاة عليه، وبدأ الناس يدعون له بالرحمة والمغفرة والرضوان، ولما انتهوا من الصلاة عليه حملوه فوق الأعناق فكانوا يتسابقون لحمله وكانت الشوارع مزدحمة وملأى بالناس، ليشهدوا الصلاة والدفن. ثم دفن -رحمه الله- في مقبرة الشهوانية [شمالي عنيزة ]، وبعد ذلك جاءت التعازي بالبرقيات من المعزين من غير عنيزة ورثي بمراث كثيرة يصعب عدها. وقد خلف ثلاثة أبناء، هم: عبد الله ومحمد وأحمد "كانوا من خيرة زماننا دينا وخلقا ويشتغلون بالتجارة". [وبهذا قضى الشيخ -رحمه الله- حياته في العلم تعلما وتعليما وإفتاء وتأليفا. وتوفي عن عمر يناهز تسعا وستين سنة]، غفر الله له ورحمه وعفا عنه وأدخله فسيح جناته. قال بعض تلاميذه بعد فقده: "وبموته فقد أعز وأغلى شخص يعيش في هذه البلدة"، وبذلك أحس الناس بالفراغ الواسع بفقده، وما زال البعض يذكرونه والقلوب تحن إذا سمعت اسمه، وكلما ذكر اسمه فإن الألسن تذكره بما فعله، وبما قام به من الأعمال الخيرة للناس أجمعين. ما قيل عن الشيخ رحمه الله: إن ما قيل عن الشيخ -رحمه الله- من قبل بعض أهل العلم المعاصرين واللاحقين ليبين مكانة الشيخ في العلم. ومن ذلك ما قاله فيه الشيخ ابن مانع "عالم عصرنا، وعلامة مصرنا". وذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي عميد معهد القضاء العالي في المصنف: "... فإن العلماء في هذا العصر كثير، ولكن قل منهم من يستقي الحكم من منبعه، ويسنده إلى أصله، ويتبع القول العمل، ويتحرى الصواب في كل ما يأتي ويذر. وإن من ذلك القليل -فيما أعتقد- الشيخ الجليل عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله- فإن من قرأ مصنفاته، وتتبع مؤلفاته، وخالطه، وسبر حاله أيام حياته، عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعا وتعليما، ووقف منه على حسن السيرة وسماحة الخلق واستقامة الحال، وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه، وطلب السلامة فيما يجر إلى شر أو يفضي إلى نزاع أو شقاق، فرحمه الله تعالى رحمه واسعة". وقال الشيخ سليمان المشعلي كان عالما جليلا وقاضيا مسددا، لما علم بوفاته قال: "مات اليوم عالم نجد، وقد طاب الموت بعد هذه الشخصية الفذة فانصدع ومات في 12 من رجب بعد وفاة [لشيخ] السعدي بتسعة عشر يوما". |