كتاب الجنائز كتاب الجنائز ألحق الفقهاء رحمهم الله الجنائز بالصلاة؛ لأن أهم ما يعمل بالميت الصلاة عليه، ولأنها تسمى صلاة، ويشترط لها أكثر شروط الصلاة، فمن أجل ذلك جعلوها تابعة لكتاب الصلاة، ولما كان يتعلق بالجنائز كثير من الأحكام جمعوها تحت هذا العنوان: "كتاب الجنائز" وإلا كانوا يقتصرون على الصلاة على الميت ويذكرون بقية الأحكام تبع الوصايا أو غيرها من الموضوعات. الجنازة: اسم للميت إذا كان على السرير يسمى جنازة، واشتقاقها من جنز إذا رفع، لأنهم يرفعونها على أكتافهم وذلك هو الجنوز. الأصل أن الميت يحمل على نعشه على الرقاب، ثم يتبعه الناس ويسيرون خلفه إلى المقابر. يتعلق بالجنائز أحكام كثيرة قبل الموت وأحكام بعده. حكم تمني موت هل يجوز تمني الموت أم لا يجوز؟ الجواب: يصحح العلماء الأحاديث التي تدل على أنه لا يجوز تمني الموت إلا إذا خشي الفتنة، فالأولى أن يقول: { اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي } رواه البخاري رقم (5671) في المرضى، ومسلم رقم (2680) في الذكر. ولا يتمناه، لأنه ورد في الحديث: { لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به } نفس الحديث السابق، وهذا أوله. لضر، أي: مرض أو نحو ذلك. وأما ما حكى الله عن مريم قولها: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } [مريم: 23] فإنما خافت من العار، حيث خافت أن تلصق بها تهمة الزنى وأنها أتت بولد من غير أب، فجعل الله براءتها أن ولدها برأها وتكلم وهو في المهد، فإذا خاف الإنسان من نفسه أن يقع في فتنة أو يتهم بها أو نحو ذلك، جاز أن يتمنى الموت وإلا فالأصل أن لا يتمناه، وأن يتمنى الحياة السعيدة الطيبة؛ فإن بقية عمر المؤمن خير له، حيث يستغفر الله لذنوبه السابقة. حكم التداوي هل يجوز التداوي؟ أم تركه أفضل؟ الجواب: إذا مرض الإنسان وسئم وطال به المرض فإنه يسوؤه ذلك؛ لأنه يعوقه عن الأعمال، ويتعبه ويرهقه فهو يحب زوال ذلك المرض، فأبيح له أن يستعمل العلاج الذي يبرأ به هذا المرض أو يخف، أو يستعمله حتى تطيب نفسه ولو مات لم يرد ذلك عنه. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر به وقال: { تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء } أخرجه أبو داود رقم (3874) في الطب، والترمذي بنحوه رقم (2038) في الطب. . وبعضهم يفصل فيقول: إن وثق بالتوكل وعلم أن قلبه لا يضعف فالصبر على المرض والتحمل أفضل إلى أن يقدر الله قدره، وأما إذا ضعف قلبه وضعف توكله فالعلاج أفضل، حتى يزول الألم أو يقدر الله ما يشاء. عيادة المريض إذا مرض الإنسان فإنه يستحب لأصدقائه وأحبابه وإخوانه في الله أن يعودوه في مرضه، وإذا عادوه فإنهم ينفسون له في الأجل ويذكرونه بالتوبة، ويذكرونه الوصية، ويبشرونه بالشفاء العاجل وأنه سوف يقوم ويعيد الله إليه صحته وحالته الأولى، وإن كان ذلك لا يرد قدرا، وكذلك يجتهدون في الدعاء له بالشفاء العاجل، فربما أن الله تعالى يستجيب دعوتهم وإن كان الله قد قدر ما قدره. والأحاديث والآثار في عيادة المريض كثيرة ومكتوبة في كتب الآداب. فإذا زاره وعاده أخوه أو صديقه فإنه يذكره بالتوبة، حتى يختم عمره وعمله بالتوبة فتكون التوبة آخر عمله، يذكره كذلك بالوصية، فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحث على كتابة الوصية، ويقول: { ما من مسلم له شيء يريد أن يوصي إليه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده } أخرجه البخاري رقم (2738) في الوصايا، ومسلم رقم (1627) في الوصية. . وذلك لأن الموت قد يأتي فجأة فيكون ذلك الميت قد فرط فيما عنده، فأضاع الأمانات التي عنده، أو المال الذي عند غيره، أو أضاع مثلا الأوقاف التي على يديه ولم يكتبها، أو فرط في حقوق تلزمه، فعليه أن يكتب في صحته حتى ولو كان نشيطا، حتى ولو كان في مقتبل عمره وفي أقوى صحة لا يغفل عن كتابة الوصية فإن الموت قد يأتيه فجأة، فقد يحدث عليه حادث أو سكتة أو نحو ذلك. وفي بعض الأحاديث: في آخر الزمان يكثر موت الفجأة ورد ذكر موت الفجأة في حديث أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن من أمارات الساعة... وقال: أن يظهر موت الفجأة " . أورده الهيثمي في المجمع (71 / 325) وقال: (رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه الهيثم بن خالد المصيصي، وهو ضعيف). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5775). ويشهد له حديث حذيفة، رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف كما قاله الشيخ حمود التويجري في (إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (2 / 14، 15، 236). ثم قال رحمه الله: وقد كثر موت الفجأة والبدار (سرعة الموت) في زماننا، وخصوصا بحوادث السيارات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولعلها في هذه الأزمنة، وذلك لكثرة من يموت بالحوادث فإن هذا موت فجأة، فالإنسان يركب سيارته ولا يدري هل يسلم أم لا؟ وإن كان مأمورا بفعل الأسباب من التؤدة والتأني والتوقي للآفات وما أشبهها، فكتابته الوصية لا تقرب الأجل؛ بل هي من الحزم. ذكر الموت دائما ففي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: { أكثروا ذكر هاذم اللذات } رواه الترمذي رقم (2460) في صفة القيامة، والنسائي في الجنائز، وابن ماجه في الزهد. وهو في صحيح سنن النسائي رقم (1720). هاذم اللذات بالذال، ورواه بعضهم بالدال "هادم". والمعنى: مكدر اللذات. وفي بعض الروايات أنه قال: { فإنه ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله } يعني: إذا ذكره الفقير الذي هو في حالة بؤس وقلة ذات يد، قنع بما آتاه الله، وقنع بالرزق الذي وفق له ولم يشتد طلبه، كفي الحديث: { قد أفلح من رزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه } أخرجه مسلم رقم (1054) في الزكاة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. . وكذلك إذا ذكره الذي عنده التجارات والأموال الكثيرة زهده فيها وحثه على بذله في وجوه الخير من الصدقات ونحوها وعلى أن يقدم لآخرته، ويتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- { يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت.. وما سوى ذلك فإنك ذاهب وتاركه } أخرجه مسلم رقم (2958) في الزهد. . وقال -صلى الله عليه وسلم- مرة لأصحابه: { أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر } رواه البخاري رقم (6442) في الرقاق. . فالحاصل أن في ذكر الموت ما يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة، ويحثه على الاستعداد للموت قبل نزوله، حتى يأتيه أجله وهو على أتم استعداد، ولا يأتيه وهو مفرط أو مقصر، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: { الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني } أخرجه أحمد (4 / 124)، والترمذي (2459) في صفة القيامة، وابن ماجه (4260) في الزهد. وأورده المنذري في شرح السنة (14 / 308، 309). عن شداد بن أوس رضي الله عنه. وحسنه الترمذي. وحسنه المنذري في شرح السنة. رواه الترمذي. فإن الذين يطيلون الآمال ويتوهمون أنهم سيعيشون كذا وكذا، وأنهم سوف يكتسبون ويتصدقون ونحو ذلك، هؤلاء قد تقطع عليهم آمالهم فلا يحصلون على ما أملوا. توجيه المحتضر إلى القبلة إذا نزل الموت بالإنسان استحب بعضهم -وهو مشهور- أن يوجه إلى القبلة، وروي عن حذيفة أنه قال: "وجهوني" قال الألباني: لم أجده عن حذيفة، وإنما روي عن البراء بن معرور. أخرجه الحاكم (1 / 353، 354) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي، انظر الإرواء رقم (689)، وذكره الزركشي برقم (993). وإن كان أنكر ذلك بعضهم كسعيد بن المسيب، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر بعض الكبائر، فقال: { واستحلال الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتا } أخرجه أبو داود رقم (2875) في الوصايا، والنسائي، وحسنه الألباني في الإرواء رقم (690) وهو في شرح الزركشي برقم (992). يعني: ومن الكبائر استحلال حرمة بيت الله الذي هو قبلتكم أحياء وأمواتا، فكيف يكون قبلتكم أمواتا؛ أي: توجهون إليها. فيندب إذا احتضر أن يوجه إلى القبلة ويكون على جنبه الأيمن، وكذلك إذا وضع في قبره يجعل وجهه إلى القبلة ويكون على جنبه الأيمن. |