س 16: بعض الأئمة ممن رزقه الله صوتا حسنا ورقة وخشوعا في قراءة القرآن، خصوصا من الشباب لوحظ أن تقدير الناس والثناء عليهم تجاوز حد الاعتدال، بل وصل الأمر أن يقوم الشيخ المسن بتقبيل رأس هذا الإمام الشاب، فما مدى موافقة ذلك للشرع؟ وهل لكم من توجيه لهؤلاء المأمومين أن لا يبالغوا في المدح والثناء؟ وهل من نصيحة للأئمة لينجوا من حبائل الشيطان وكيده؟ ج 16: إذا كان هذا الصوت طبيعة وجبلة فلا مانع من ذلك، لكن على الإمام أن لا يبالغ إلى حد فيه شيء من التكلف، الذي يخرجه عن حد الاعتدال، بل عليه أن يقرأ كما علمه الله، ويلزمه الإخلاص في قراءته، وإصلاح النية، بأن يريد وجه الله والدار الآخرة، ولا يكون قصده الشهرة وانتشار الخبر عنه على ألسن الناس، كما أن عليه التواضع، وتصغير نفسه، واحتقار عمله، بأن لا يرى نفسه أهلا للتوقير ولا للاحترام، وعليه أن يمنع من يغلو فيه والنبي -صلى الله عليه وسلم- خير البشر أجمع، كان يقول: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء 3261. فمن باب أولى علينا أن نمنع من يرفعنا فوق منزلتنا، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، والله المستعان. أو يعامله بما لا يستحقه، كما أن على المأمومين أن لا يَصِلُوا به إلى حد التعظيم والتبجيل. ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في غاية من التواضع، وحث أصحابه على أن لا يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، كما روي عنه أنه قال: { إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد } أخرجه ابن المبارك في الزهد 53، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبيد الله بن عبيد، قال: "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بطعام، فقالت له عائشة، لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها، قال: بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد، وإنما أنا عبد، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس متحفزا" . وعبيد الله بن الوليد الوصافي، هو أبو إسماعيل الكوفي، قال أحمد: ليس بمحكم الحديث، يكتب حديثه للمعرفة، وقال يحيى: ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، وقال العقيلي: في حديثه مناكير لا يتابع على كثير من حديثه. وأخرجه عبد الرزاق 10/415 عن أيوب، بلفظ: "كان إذا أكل احتفز، وقال: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد". وسنده مرسل، فأيوب هو: ابن أبي تميمة، واسمه كيسان السختياني العنزي مولاهم، البصري، وعداده في صغار التابعين، وهو ثقة ثبت، من كبار الفقهاء العباد توفي سنة 131هـ. وأخرجه عبد الرزاق من طريق آخر 10/417، عن يحيى بن أبي كثير. وسنده -أيضا- مرسل. فيحيى بن أبي كثير الطائي، ثقة ثبت، عداده في صغار التابعين، قال ابن حجر: لكنه يدلس ويرسل، ويقال: لم يصح له سماع من صحابي، توفي سنة 192هـ. وأخرجه ابن سعد 1/ 280 بإسناده عن يحيى بن أبي كثير به. وقال العجلوني في كشف الخفا 1/17: رواه ابن سعد بسند حسن. اهـ. وهذا غير مسلم به، فالإسناد ضعيف، لإرسال يحيى. وأخرجه ابن سعد -أيضا- 1/288 من طريق سعيد المقبري. عن عائشة وفيه.. قالت: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، لا يأكل متكئا ويقول: "آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد". وهذا الإسناد فيه علتان: الأولى: في سنده نجيح بن عبد الرحمن السندي، وهو أبو معشر، مولى بني هاشم ضعيف، توفي سنة 170هـ. قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن مهدي تعرف وتنكر، وقال النسائي والدراقطني: ضعيف. الثانية: سعيد المقبري، هو سعيد بن أبي سعيد، كيسان المقبري ثقة. قال ابن حجر: وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة. اهـ. وأخرجه ابن أبي شيبة 7/78، بلفظ مقارب، من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر. وفي سنده رجل مجهول. وهناد: بن السّري في الزهد 2/ 411، 412 بإسنادين: الأول: من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، به وهو إسناد ضعيف لأمرين: الأول: إسماعيل، هو أبو إسحاق البصري، إسماعيل بن مسلم المكي. قال أحمد: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الجوزجاني: واهي الحديث جدا. والثاني: أن الحسن أرسله. الإسناد الآخر: من طريق أبي سنان، عن عمرو بن مرة، به. وهذا إسناد مرسل. فعمرو هو ابن مرة بن عبد الله بن طارق بن الحارث، الحافظ أبو عبد الله المرادي الكوفي، ثقة، عابد، كان يدلس، ورُمي بالإرجاء. وأخرجه الإمام أحمد في الزهد ص 17 بإسنادين: الأول: من طريق عبدة بن أيمن، عن عطاء بن أبي رباح، قال: دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- ...". وهذا إسناد مرسل. فعطاء ابن أبي رباح، ثقة، فقيه، لكنه كثير الإرسال. قال القطان: مرسلات مجاهد، أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. اهـ. وقال أحمد: ليس في المرسلات شيء، أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح، كانا يأخذان عن كل أحد. اهـ. وأيضا عبدة بن أيمن لم أعرفه!؟ الثاني: من طريق جرير بن حازم، عن الحسن، وإسناده مرسل -أيضا- قال محمد ناصر الدين -رحمه المولى- وإسناده مرسل صحيح. وأخرجه أبو يعلى في مسنده 4/442، من طريق أبي معشر، عن سعيد، عن عائشة.. قال في مجمع الزوائد 9/ 19: رواه أبو يعلي، وإسناده حسن. اهـ. أقول: بل هو ضعيف، لضعف أبي معشر، وسعيد يرسل عن عائشة، كما تقدم. وأخرجه البغوي في شرح السنة 13/247، 248، من طريق أبي معشر عن سعيد، عن عائشة. وهو ضعيف، ولكن له شاهد، أورده المصنف، عن ابن عباس وفيه انقطاع، بالإضافة إلى أن في الإسناد بقية بن الوليد، وهو مدلس. والخلاصة: أن الحديث بمجموعه صحيح. . وروي عنه أنه قال: { إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد } أخرجه هناد في الزهد (2/413) عن أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس به. إلا أنه وقع في لفظ الحديث: "أتي رسول الله برجلين ترعد فرائصهما، فقال: هونا على أنفسكما فإنما أنا..." إلخ. وإسناده مرسل صحيح. فقيس هو ابن أبي حازم، أبو عبد الله الكوفي ثقة، حافظ، أسلم وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبايعه فقبض نبي الله وقيس في الطريق. وبقية رجال السند ثقات. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (1/21)، عن يزيد بن هارون، وعبد الله بن نمير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم به. وأخرجه ابن ماجه في سننه (2/1102) عن إسماعيل بن أسد عن جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود به. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/182): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات". وأخرجه الدارقطني في العلل (6/ 195) من طريق إسماعيل بن أبي الحارث عن جعفر عن إسماعيل عن قيس عن أبي مسعود به. وقال: تفرد به إسماعيل بن أبي الحارث متصلا اهـ. قلت: قد تابع إسماعيل بن أبي الحارث محمد بن إسماعيل بن علية القاضي ذكر ذلك الخطيب البغدادي (6/278)، ثم ساق بإسناده إلى محمد بن إسماعيل، عن جعفر عن إسماعيل عن قيس عن أبي مسعود به. وبهذا صح الحديث وزال عنه الوهم، كما قال المِزِّي في ترجمة إسماعيل بن أسد والله أعلم. وأخرجه الخطيب -أيضا- من طريق إسماعيل بن أبي الحارث عن جعفر. وقال الخطيب: وممن رواه مرسلا هشيم بن بشير، ويحيى بن سعيد القطان وزهير بن معاوية عن ابن أبي خالد. اهـ. وساق الخطيب بعد ذلك هذه الروايات بإسناده. وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 50) من طريق إسماعيل بن أبي الحارث عن جعفر عن إسماعيل عن قيس عن أبي مسعود به. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: وإسماعيل بن أبي الحارث لم يخرج له البخاري ومسلم وهو ثقة. قال ابن أبي حاتم كتبت عنه مع أبي وهو ثقة، صدوق، وسئل عنه أبي فقال صدوق. وقال الدارقطني: (ثقة، صدوق، ورع، فاضل) وأخرجه الحاكم- قال: حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن القرشي بهراة، ثنا سعيد بن منصور المكي، ثنا عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- به. وزاد في آخره: ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي (2/ 506). قلت: رجاله ثقات، عدا محمد بن عبد الرحمن القرشي، أظنه والله أعلم الهروي. قال في الجرح والتعديل (7/326): (محمد بن عبد الرحمن الهروي أبو عبد الله نزيل الري، روى عن ابن أبي فديك وحسين الجعفي وعبد الله بن الوليد العدني ويزيد بن هارون كتبت عنه وهو صدوق روى عنه علي بن الحسين بن الجنيد حافظ حديث مالك والزهري اهـ. وغالب ظني أنه هو المعني. وقد أشار إلى ذلك العلامة محمد ناصر الدين أيضا. والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 151) من طريق محمد بن كعب الحمصي عن شقران عن عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير به. قال الطبراني. "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل عن قيس عن جرير، إلا عيسى تفرد به عن شقران. اهـ. قلت: وهذا غير مسلم؛ لأن رواية الحاكم ترده. وممن أخرج الحديث عاليا الحافظ المزي في تهذيب الكمال في ترجمة إسماعيل بن أسد (3/ 44). والحديث صحيح. كما أن الواجب على العامة أن لا يبالغوا في هذا الاحترام والتوقير، لما فيه من الغلو الذي يُخشى معه الغرور، والإعجاب بالنفس ومع ذلك فإن محبة المؤمنين بعضهم لبعض متأكدة، لأجل الإيمان والعمل الصالح، ولكن أثر المحبة في ذات الله، الاقتداء بالصالحين، واتباع آثارهم، والانتفاع بإرشادهم، ومعلوم أن كل عبد صالح مخلص لله تجب محبته على إخوانه، وأن الصغير عليه أن يحترم من هو أسن منه. وقد ورد في الحديث: { إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه } أخرجه أبو داود 4843 من طريق عبد الله بن حمران، عن عوف بن أبي جميلة عن زياد بن مخارق عن أبي كنانة عن أبي موسى الأشعري. به. قلت: وعبد الله بن حمران، هو أبو عبد الرحمن البصري، صدوق يخطئ قليلا، من التاسعة كذا التقريب. وأبو كنانة هو القرشي، عن أبي موسى، مجهول، من الثالثة، ويقال هو معاوية بن قرة. ولم يثبت كذا في التقريب. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد 362 من طريق عبد الله، عن عوف عن زياد عن أبي كنانة عن أبي موسى.. به. وأخرجه الخطيب في الجامع 1/186 من حديث ابن عباس.. به، والبيهقي في الشعب 7/459، 460 من ثلاث طرق: الطريق الأول: عن عبد الله بن حمدان عن عوف، عن زياد عن أبي كنانة، عن أبي موسى به. الطريق الثاني: عن عيسى بن يونس عن بدر بن خليل الكوفي الأسدي، عن سلمة بن عطية الفقيمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من جلال الله -تعالى- على العباد، إكرام ذي الشيبة المسلم، ورعاية القرآن من استرعاه الله إياه، وطاعة الإمام يعني المقسط". الطريق الثالث: عن محمد بن أيوب البجلي عن علي بن محمد الطنافس، عن وكيع عن أبي معشر المدني، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به. وأخرجه -أيضا- البيهقي موقوفا على الحسن بن مسلم. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/138. قلت: وحسن إسناد حديث أبي موسى الأشعري الحافظ النووي في رياض الصالحين، والحافظ العراقى في تخريج أحاديث الأحياء، والحافظ ابن حجر. والحديث حسن. إلخ. ولكن لا يتوقف الإجلال على تقبيل الأيدي والأرجل ونحو ذلك، وإنما يتمثل في السلام والاحترام، والتقديم والتوقير، ونحوه. والله أعلم. |