وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: { إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي؛ فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا. فقال: إلا الإذخر } متفق عليه رواه البخاري رقم (1349) في الجنائز، ومسلم رقم (1355) في الحج. وقال: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور"، رواه مسلم جزء من حديث رواه البخاري رقم (1870) في فضائل المدينة ووقع عنده إبهام الثاني بلفظ: "المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، 00) الحديث، ورواه مسلم رقم (1370) في الحج باللفظ الذي ذكره المصنف. . * حرمة مكة والمدينة قوله: (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما فتح الله على رسوله مكة إلخ): وذلك لأنها لما فتحت ودخلها المسلمون ظن بعضهم أن حرمتها قد زالت، وأنه يجوز فيها ما يجوز في غيرها، فاعتدى رجل من هذيل على آخر وقتله لثأر قديم، فسمع بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام وخطب الناس، فقال: { إن الله حبس عن مكة الفيل } - أي: أصحاب الفيل الذين أرسل عليهم طيرا أبابيل، فحبس أصحاب الفيل عن مكة-"وسلط عليها رسوله والمؤمنين"، لأنهم على حق؛ ولأنهم جاءوا لتطهيرها. ثم قال: { إنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } وهو ذلك اليوم الذي قاتل فيه، فأحلت له ثم عادت حرمتها، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- { وإنها لن تحل لأحد بعدي } وفي رواية: { قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس } . ثم ذكر ما يحرم فيها، فقال: { فلا ينفر صيدها } وإذا كان لا ينفر، فبطريق الأولى أنه لا يقتل، ويدخل في الصيد الحمام والعصافير والوعول، والصيد كله لا ينفر بل يترك فيها، ومن دخلها ومعه صيد فإنه يخليه، فلو دخل إنسان معه ظبي أو حمام خلى سبيله ولم يتعرض له. ثم قال -صلى الله عليه وسلم- { ولا يختلى شوكها } وفي رواية: { ولا يختلى خلاها } والمراد بالخلى المرعى، أي: لا يُجَزُّ المرعى والنبات والعشب الذي في أرضها، بل يترك تأكله الدواب، وكذلك لا يعضد شجرها، أي: لا يقطع الشجر الذي ينبت بنفسه، وأما الذي ينبته الآدمي فإنه ملكه، فإذا أنبت شجرة كنخلة مثلا أو عنبة أو تينة أو نحوها فإنه يجوز له التصرف فيها. ثم قال: { ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين } ؛ لأن قتله يعتبر ظلما، فهو إما أن يأخذ الدية، وإما أن يقتص، فمن قتل له قتيل فإما أن يطلب القصاص، وإما أن يأخذ الدية. ولما ذكر منع الخلاء وقطع شجرها كانوا بحاجة إلى شجر يقال له الإذخر، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر"، والإذخر: شجر أو نبات أعواده دقيقة، يجزونه ويجعلونه في القبور بين اللبنات، ويجعلونه بين الخشب في السقوف ولحوها، ويوقد بها القين، أي: أن الحداد يوقد به ماء النار حتى يحمى الكير، فهم ينتفعون به فاستثناه الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (وقال: { المدينة حرام ما بين عير إلى ثور } . وقد اختلفوا هل في المدينة جبل يقال له: ثور، فأنكر ذلك بعضهم، وقال: إنما ثور يعرف بمكة ولكن صحح بعض المحققين أنه جبل صغير خلف أحد يسمى ثورا وعير في جنوب المدينة فقوله: "ما بين عير وثور": أي: ما بين عير الذي في جنوب المدينة و ثور الذي خلف أحد. وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم- { ما بين لابتيها حرام } واللابتان هما: الحرتان الشرقية والغربية، والحرة هي: أرض تركبها حجارة سوداء، فما بينهما يعتبر حرما. فنعرف من هذين الحديثين أن ما بين عير جنوب المدينة وثور خلف أحد، وما بين الحرتين شرقا وغربا كل هذا يعتبر حرما، ولكن ليس فيه فدية، فإذا قتل صيدا أو قطع شجرة فليس فيه فدية، ولكنه يمنع من قطع الشجرة، ويمنع من قتل الصيد ويحرم عليه ذلك. |