وإن خاف نشوز امرأته، وظهرت منها قرائن معصيته: وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع، فإن لم ترتدع ضربها ضربًا غير مبرح. ويمنع من ذلك إن كان مانعًا لحقها. وإن خيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها يعرفان الأمور والجمع والتفريق، يجمعان إن رأيا، بعوض أو غيره، أو يفرقان. فما فعلا جاز عليهما. والله أعلم. النشوز: قوله: (وإن خاف نشوز امرأته، وظهرت منها قرائن معصيته: وعظها): النشوز هو: العصيان أو الإعراض أو الهجران أو المخالفة أو ما أشبه ذلك. وهذا مذكور في القرآن، قال الله تعالى في سورة النساء: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } النساء: 34 ثم قال: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } النساء: 35 فإذا خاف نشوزها، يعني: رآها مثلا تتكره صحبته أو تتبرم بأداء حقه ولا تجيبه إلى نفسها إلا مع التثاقل، أو رأى منها مثلا أنها لا تطيعه في خدمته، أو أنها تكثر الخروج، أو إذا خرجت إلى أهلها لا ترجع إليه إلا بعد مشقة وبعد إلحاح وبعد تشدد؛ فمثل هذا يسمى نشوزًا أو مقدمات النشوز فيجب عليه أولا: أن يبدأ بالوعظ فيخوفها من آثار النشوز الذي هو العصيان، فيذكر لها عظم حق الزوج، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } جزء من قصة رواها الإمام أحمد (4 / 381)، وابن ماجه برقم (1853)، وأورده المنذري في الترغيب برقم (2915). عن عبد الله بن أبي أوفى. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1503)، وصححه أيضا في السلسلة الصحيحة (3 / 201، 202) عند الحديث رقم (1203) وقال: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، ثم قال: وللحديث شاهد من حديث ابن عمر أخرجه البيهقي. قلت: وللحديث طرق وشواهد كثيرة منها: 1- حديث عائشة رضي الله عنها، رواه أحمد (6 / 76)، وابن ماجه برقم (1852)، والمنذري في الترغيب برقم (2917). 2- حديث قيس بن سعد رضي الله عنه، رواه أبو داود برقم (2140)، والمنذي في الترغيب برقم (2914). 3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه الترمذي برقم (1159)، والمنذري في الترغيب برقم (2916). 4- أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أورده المنذري في الترغيب برقم (2912)، وقال: رواه البزار والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. 5- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، رواه أحمد (3 / 158، 159))، والمنذري في الترغيب برقم (2913)، وقال: رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد، رواته ثقات مشهورون. فيذكر لها حق زوجها عليها، ووجوب طاعتها له، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرها بأن تطيع زوجها ولا تعصيه، وأخبر بأنها إذا أطاعته فلها كذا، وإذا عصته فعليها كذا وكذا، فهو يعظها ويذكرها بالحقوق لعلها أن تتعظ. قوله: (فإن أصرت هجرها في المضجع): فإذا لم ينفع الوعظ فإنه يأتي بالأمر الثاني: وهو الهجران، أي: يهجرها، وقد ذكر العلماء: أنه يهجرها في الكلام ثلاثة أيام لا يكلمها، لعلها أن تلين، ويهجرها في المضجع بأن لا ينام معها، أو إذا نام معها فإنه يوليها ظهره، وينام مع زوجته الأخرى إذا كانت له زوجة أخرى. والمضجع هو: الفراش؛ هذا إذا استطاع ذلك، أما إذا لم يكن له إلا زوجة واحدة ولا يستطيع الصبر؛ عن هجرها في الفراش لحاجته إليها، والمرأة قد تتحمل الصبر؛ لأن المرأة أقوى على الصبر عن زوجها منه عنها، لكن إذا هجرها في الكلام ووعظها فإنه قد يكون مؤثرًا. قوله: (فإن لم ترتدع ضربها ضربًا غير مبرح): أي: إن لم ينفعها الوعظ ولا الهجر أتى بالأمر الثالث وهو: الضرب، فيضربها ضربًا غير شديد، يضربها بيده مثلاً أو بعصًا خفيفة؛ بحيث لا يجرح جلدًا ولا يكسر عظمًا، ولا يضرب في الوجه؛ لأنه ورد النهي عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: { لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته } رواه الترمذي رقم (1159) في الرضاع، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5294). وذكره الزركشي برقم (2665). . قوله: (ويمنع من ذلك إن كان مانعًا لحقها): أي: إن كان مانعًا لحقها بأن منعها العشرة ومنعها النفقة ومنعها من الكسوة مثلاً، أو منعها من لين الجانب أو منعها من لين الكلام أو من الخلق الحسن؛ وإذا تعامل معها تخلق بالأخلاق السيئة، فمثل هذا يعتبر هو الخاطئ وهو الذي قد ظلمها، فلها حقها في أن تتمنع منه أو تتبرم عليه. قوله: (وإن خيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها يعرفان الأمور والجمع والتفريق، يجمعان إن رأيا بعوض أو غيره، أو يفرقان، فما فعلا جاز عليهما): لقوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } النساء: 35 فيختار الزوج حكما من أقاربه معروفًا بالعقل والإدراك والنصح والتوجيه والجمع والتفريق، وهي تختار أيضا حكما من أهلها من أحد أقاربها من أهل العقل والتمييز والفهم والإدراك، يجتمعان بالزوجين فيسألانهما عن سبب الخلاف، وماذا ينقم كل منهما على الآخر، فيسألان الزوجة: ماذا تنقمين عليه؟ وماذا تنكرين عليه؟ وماذا رأيت منه وما نوع تقصيره عليك، وأنت أيها الزوج: ماذا أنكرت عليها؟ وما نوع تقصيرها؟ فإذا رأيا بينهما تقاربا حثا كلَّ واحد منهما على التنازل للآخر عن بعض حقه، وأن يسقط ما يراه من الحق الذي له أو عليه، فربما يكون ذلك سببًا في الجمع بينهما، والله تعالى يوفق بينهما إن كان مرادهما وغايتهما الإصلاح. فإذا فشلت جميع المحاولات واتضح أنه لا فائدة من الإصلاح، ولم يستطيعا الجمع بينهما لنفرة من الزوجة أو الزوج، فليس لهما إلا الفراق. والفراق هو التفريق بينهما، فإن كانت هي التي كرهته وقالت: لا أريده ولا أرضاه زوجا، قيل لها: أعطه كذا وكذا مما دفع لك وهو يخلي سبيلك، فإذا دفعت له فإنها تبرأ منه وتتخلى. فإذا كان هو الذي ظلمها، وهو الذي هجرها، وهو الذي أضر بها، والظلم حصل منه، قيل له: طلقها ولا حق لك عليها، أو أعطها ما تستحقه وطلقها، والحاصل أن الحكمين يفرقان أو يجمعان، والتفريق يكون بعوض أو بغير عوض، وأن ذلك جائز لأن الحاكم رضيهما. |