لا شك أن أهم المناسك التي يؤديها الحجاج هو الوقوف في عرفات واجتماعهم كلهم هناك, في اليوم التاسع من ذي الحجة. والوقوف بعرفة من أعظم المناسك, وهو الحج الأكبر, ومن فاته هذا اليوم فقد فاته الحج. ولا شك أن الوقوف بعرفة فيه منافع كثيرة ومن هذه المنافع كون الحجاج يجتمعون كلهم في مكان واحد, بحيث لا يخرجون عن محيط وحدود عرفة لا فرق بين عربيهم وأعجميهم! وبين قاصيهم ودانيهم! وذكرهم وأنثاهم! وصغيرهم وكبيرهم! وأميرهم ومأمورهم! مجتمعين في هذا المكان. فلماذا هذا الاجتماع الكبير؟! لأنهم عرفوا أن هذا الموقف -الذي هو موقف عرفة - هو موقف الحج الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- { الحج عرفة } أخرجه الترمذي (889) والنسائي 5/256 من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه. والذي أخبر أن الشيطان يكون فيه صغيرا حقيرا, فقال : { ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة } رواه مالك في الموطأ ووصله الحاكم. ؛ وذلك لما يرى من تنزل الرحمة, وتجاوز الله عن الذنوب العظام, حيث إن الله سبحانه وتعالى يطلع على عباده في ذلك الموقف, وكلهم قد كشفوا رءوسهم, وقد رفعوا أيديهم متضرعين إلى الله, يدعونه بخشوع وخضوع وتواضع, فيباهي بهم الملائكة, ويقول: { انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق؛ يسألون حوائجهم، أشهدكم أني قد غفرت لهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفورا لكم } أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2840)، والبغوي في "شرح السنة" (1931) من حديث جابر -رضي الله عنه- وانظر مسند أحمد (2/305). . لا شك أن هذا يدل على عظمة هذا الموقف الذي يُظهر فيه المسلم الاستكانة والتواضع والتذلل لله, يظهر فيه الفقر والفاقة, ويظهر فيه المسكنة, والحاجة الشديدة إلى ربه, وأنه فقير إلى ربه في كل حالاته, لا غنى له عن ربه طرفة عين, فمتى كان الحجاج على مثل هذه الحالة رحمهم الله تعالى وتقبل حجهم. ولكن من المؤسف أن الكثير لا يتصفون بصفة العبودية, ولا يتصفون بصفة الذل والخضوع، ولا بصفة الخشوع والتواضع, ولا رفع أكف الضراعة, إلا ما شاء الله ولا نقنط من رحمة الله. يقف الحجاج في هذا اليوم يقدِّمون صلاة العصر مع صلاة الظهر، يجمعونها جمع تقديم ليطول وقوفهم؛ ليقفوا داعين ربهم خمس ساعات أو ست ساعات متواصلة, لا يفصلها شيء, كل ذلك دعاء. هكذا فعل نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وقف من حين انتهى من خطبته وصلاته, وقف بعرفة على بعيره, واستمر واقفا وهو يدعو رافعا يديه يدعو ربه, ولما سقط خطام ناقته منه، وكان ممسكا به، تناوله بيده اليسرى وبقيت يده اليمنى مرفوعة حتى أخذ الخطام ثم رفع يديه, كل ذلك دليل على أنه أكد عبوديته إلى ربه في هذا الرفع. ولا شك أن المنفعة في ذلك هي الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى. |