شرع للحجاج في يوم العيد أن يصلوا صباح العيد في مزدلفة ثم يذكروا الله ويدعوه إلى الإسفار؛ وهذا لا شك أنه مما يقوي الإيمان, ومما يزيدهم رغبة في ثواب الله تعالى وهو كثرة الذكر, وكثرة الدعاء. بعد ذلك يستمر الحجاج في التوجه إلى منى مع الاشتغال بالتلبية إلى أن يصلوا إلى الجمرات التي أمروا بأن يذكروا الله عندها, قال الله تعالى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وقد فُسِّر الذكر بأنه رمي الجمار, ويرمون في ذلك اليوم جمرة العقبة فقط, وهي التي تلي مكة ورمي الجمار لا شك أن فيه منفعة وهو التذكير بعداوة الشيطان الذي عرض لإبراهيم وإسماعيل وهاجر أم إسماعيل واعترض لهم في هذه الأماكن, فيعرفون بذلك عداوته ويحذرونه؛ فرميُهم لهذه الجمرات تذكير بعداوته, ولأجل هذا يتعوذون بالله من الشيطان في كل حالاتهم. أما شرعية هذا الرمي على هذه الكيفية, فهو السنة التي بيّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله وبفعله, أمرنا أن نرمي الجمرات على هذه الحال وفعل ذلك بنفسه، ثم بعدما فرغ من رمي جمرة العقبة شرّع لأمته في هذا اليوم أعمال يوم النحر, فبدأ بنحر هديه, ثم بحلق رأسه, ثم الطواف بالبيت, والسعي بين الصفا والمروة زيادة على خطبته التي خطبها, وبيّن للناس مناسكهم في ذلك اليوم. ونذكر -على سبيل الاختصار- بعض المنافع التي يحصل عليها المسلم في هذه الأعمال, وهي أعمال يوم النحر, فمن ذلك: منفعة حلق الرأس, معلوم أن بعض الناس قد يكون الشعر عندهم ثمينا, ويشق عليهم أن يحلقوه؛ فإذا حلقه تقربا إلى الله تعالى, دل ذلك على تضحيته لله بكل محبوب, وذلك من الأعمال الفاضلة؛ ولأجل ذلك قال الله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وقال في الذين يدخلون مكة : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } فوصفهم بقوله محلّقين ومقصّرين, وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الحلق أفضل من التقصير, فقال : { رحم الله المحلقين. قيل: والمقصرين يا رسول الله. قال رحم الله المحلقين } أخرجه مسلم (1301)، (318) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. . ترحّم على المحلقين ثلاث مرات, وعلى المقصرين مرة; لأن الحلق أكمل امتثالا. هذا الشعر قد يحب الإنسان بقاءه, فقد يكون هذا الشعر زينة أو نحو ذلك, وقد يتألم من الحلق؛ فإذا حلق هذا الشعر طواعية وتعبدا وذلا لله سبحانه وتعالى, كان ذلك دليلا على أنه عابد لله, ومتعبد, وأنه مطيع لله, غير عاص. * أما منفعة نحر الهدي, فإنه من القرابين التي يذبحونها؛ فيحيون بها سنة أبيهم إبراهيم -عليه السلام- فإن الله تعالى ابتلاه بذبح ولده، فامتثل ذلك في قوله: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } فقال الله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } ثم قال الله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ففداه الله تعالى بذبح عظيم فذبحه, فصارت سنة مؤكدة أن الحجاج يذبحون ما تيسر اتباعا لسنة أبيهم إبراهيم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن المال عزيز في النفس, وأن الإنسان يشح بماله ويحب المال, كما في قوله تعالى : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } ولكن إذا عرف أن ربه يحب منه أن يبذل هذا المال, وينفقه في مرضاته؛ هانت عليه كل النفقات في سبيل الله, وفي ذات الله, وإذا عرف أن ربه يحب النفقة في هذا الوجه, وأنفق فيها, كان ذلك لذة وراحة وسلوى ومحبة, وأمرا محبوبا عنده؛ لأنه يعرف أن ربه يضاعف له هذا العمل أضعافا كثيرة, ويعرف أن هذه الذبيحة التي يذبحها يجد أجرها أضعافا مضاعفة. كما أنه قد هانت عليه النفقة التي أنفقها من حين خرج من بلاده إلى أن رجع إليها; لأنها نفقة في طاعة الله, يرجو أن يكون ثوابها عند الله تعالى أضعافا مضاعفة. فهذا ونحوه مما يبين أن على الإنسان أن يكون ممتثلا لأمر الله سبحانه وتعالى في جميع حالاته, قبل الحج وبعده, وليس في أيام الحج فقط. بعد ذلك يستمر الحجاج في إكمال مناسكهم فيبقون أيام التشريق يذكرون الله ويكثرون من ذكره وشكره, ويكملون رمي الجمرات التي أمر الله تعالى بها, وبيّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك يفعله الحاج امتثالا لأمر الله. وإذا عرف الإنسان الحكمة في هذه الأوامر والمنافع والفوائد التي في هذه المناسك, عرف أن الله سبحانه وتعالى ما أمر إلا بما فيه مصلحة ومنفعة, فاطمئن إلى شرع الله, وعرف حكمته في كل الأوامر. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا, ويرزقنا علما نافعا, وأن يرزقنا حجا مبرورا, وعملا صالحا مقبولا. ونسأله تعالى أن يجعل سعينا مشكورا, وأن يضاعف لنا الأجور، ونسأله أن يتقبل منا أعمالنا, وأن يكفر عنا سيئاتنا, ويرفع لنا درجاتنا, ويجزل لنا المثوبة, ويجعلنا جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, إنه ولي ذلك والقادر عليه, والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |