يشتغل المعتكف بكل ما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة وتلاوة للقرآن الكريم ومدارسته، كما أنه ينقطع عن العلاقات الدنيوية فينقطع عن الزيارات، فلا يفتح باب الزيارة لمن يزوره إلا قليلا لحاجته، فقد ثبت أن بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كنّ يأتين إليه وهو معتكف ويتحدثن معه قليلا ، أما فتح باب الزيارة للأهل والأولاد والأصدقاء فإنه يجعل المسجد كالبيت، لا فرق بينهما، كما أنه يفتح الباب أمام الكلام الذي لا فائدة منه. وكذلك على المعتكف ألا ينشغل بالدنيا وبأهلها، فلا يسال من رأى، ولا من سمع عن أمر من أمور الدنيا، ولا عن خبر من أخبارها، ولا يهتم بأمر من أمورها، وبعد ذلك يعكف على العبادة؛ فينتقل إلى جنس الصلاة سواء التراويح أو غيرها، أو التقرب بالرواتب ونحوها، وينتقل إلى القراءة والذكر، والدعاء والابتهال إلى الله، وما أشبه ذلك مع حضور القلب حتى يجمع بين خشوع القلب وحضوره، وبين التكلم باللسان مع اتصافه أيضا بالخشوع والخضوع. ولأجل ذلك ذكر ابن رجب أن بعضهم يقول في تعريف الاعتكاف: (أنه قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق)، والعلائق بمعنى العلاقات فتقطع علاقتك بفلان وفلان، وتنقطع منها عن جميع الخلائق، ويتصل قلبك بربك بحيث يكون ذكر الله على قلبك دائما ، نائما ويقظان، قائما وقاعدا ومضطجعا، تذكر الله في كل حالاتك، وتتأمل، وتعقل ما تقول إذا كنت مشتغلا بذلك، وإن قرأت القرآن قرأته بتدبر. وقد أدركنا قبل أربعين سنة، أو خمسين سنة آباءنا ومشايخنا كانوا يعتكفون، ولا يُخلُّونَ بالاعتكاف، وكانوا يعكفون على القرآن، حيث رزقهم الله حفظ القرآن وسهولته، فكانوا يختمونه كل يوم غالبا ، أو كل يومين مع التدبر!! ذلك لأنه شغلهم الشاغل في ليلهم ونهارهم، إلا أنه فقط يؤتى بأكله، بفطوره وسحوره، وأحيانا يقتصر على السحور، فيتناول في الإفطار تمرات قليلة،ولا يتناول عشاءً، ويجعل عشاءه سحورا ، هكذا أدركنا مشايخنا؛ يخرج الواحد منهم لقضاء الحاجة فقط، وللوضوء، لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة، ولا يعود أهله، ولا يفتح باب زيارة ولا غير ذلك. هكذا المعتكف الذي يريد أن يكتب له أجر هذا الاعتكاف، ويقتدي في ذلك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ما ترك الاعتكاف في سنة من السنوات إلا سنة واحدة في رمضان لما دخل معتكفه اعتكف معه بعض نسائه، وضربت كل واحدة منهن خباء، فلما رأى الأخبية في المسجد أنكر ذلك، وعرف أن هذا منافسة، فعند ذلك ترك الاعتكاف تلك السنة واعتكف في شوال لحديث عائشه رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، وإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه، قال: فاستأذنته عائشه أن تعتكف، فأذن لها فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة، فضربت قبة، وسمعت زينب بها، فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة، أبصر أربع قباب، فقال: ما هذا؟ فأخبر خبرهن، فقال: ما حملهن على هذا البر؟ انزعوها فلا أراها فنزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال" وفي رواية للبخاري: "ثم اعتكف عشرا من شوال". وفي رواية أخرى: "فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال". أخرجه البخاري برقم (2033). وأخرجه أيضا في مواضع أخرى. ومسلم برقم (1173). وكان في الغالب يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل" أخرجه البخاري برقم (2026)، ومسلم برقم (1172)-5. واعتكف مرة أو مرتين في العشر الأوسط أخرجه البخاري برقم (2027) في الاعتكاف، باب: "الاعتكاف في العشر الأواخر". من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه البخاري برقم (2016). . والاعتكاف -كما سبق- كان للاستكثار من الطاعة، ولطلب أن يحظى العبد بالمغفرة، والمغفرة لها أسباب، ومن أسبابها في رمضان: الصيام إيمانا واحتسابا ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري برقم (38)، ومسلم برقم (760). وقيام رمضان إيمانا واحتسابا، وكذلك قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري برقم (35)، ومسلم برقم (760) فيحرص العبد على أن يحظى بسبب من أسباب مغفرة الذنوب التي اقترفها فيما مضى من عمره. |