لا شك أن دخول أي عاقل في هذا الدِّين يتوقف على شهادته لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم اعتقاده لمعنى هذه الشهادة دائما ، واطمئنان قلبه بأَنها تتضمن الإقرار بأَنه صلى الله عليه وسلم قد جاء برسالة ربه إلى المكلفين، التي توجب تعبدهم بكل ما يتقربون به إلى ربهم من أَفعال وأَقوال واعتقادات، وما يترتب على متابعته أو مخالفته في ما بلَّغه من الثواب أَو العقاب. ومع أَن هذا المعنى هو المفهوم من هذه الشهادة، والمدلول للفظها، فقد صَّرح الله تعالى به في القرآن، ونوَّعه بعبارات تؤدِّي هذا المعنى، وتدور عليه، وإليك بعض هذه العبارات من القرآن، وما يشهد لها من السنة مع وجه دلالتها . 1- الأَمر بالإيمان به: كما أمر بالإِيمان بالله، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وتهديد من أَبى ذلك، وتوعده بالعذاب، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } . وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وقال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا } . وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . وقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا } . وهكذا أيضا صرح النبي صلى الله عليه وسلم في سنته بلزوم ذلك، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به } انظره في صحيح مسلم بشرح النووي 1/210. . وفسر الإيمان في حديث جبريل المشهور بقوله: { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } الحديث اشتهر الحديث بإضافته إلى جبريل عليه السلام لأنه الذي سأل عن أمر الدين فيه وقد رواه مسلم في أول كتاب الإيمان من صحيحه عن عمر بن الخطاب مطولا وراه البخاري في الإيمان من صحيحه برقم 50 ومسلم أيضا 1/161 عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه. . ولا شك أن الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - يستلزم تصديقه فيما جاء به، ذلك أن الإيمان به هو يقين القلب بصحة رسالته، فباجتماع القلب واللسان يتم الإيمان به، ويعتبر، وبتخلف تصديق القلب لا تعتبر الشهادة ولا تنفع، ولهذا كذب الله المنافقين الذين قالوا: نشهد إنك لرسول الله، قال تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . 2- الأمر بطاعته التي هي من أَثر الإيمان به: ذلك أَن التصديق الجازم بصحة نبوته يستلزم طاعته فيما بلَّغه عن الله، فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عنادا لم يكن مؤمنا به الإيمان الواجب. ولقد أمر الله بطاعته في مواضع كثيرة من القرآن كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وقال تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } . وقال تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . بل قد رتب على طاعته الثواب الجزيل كما في قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وقوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } . وكذا توعد على معصيته وأخبر بعقوبة من عصاه كما في قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وقوله: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } . وهكذا ورد في الحديث بيان الثواب على طاعته وعقوبة من عصاه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله } هو في صحيح البخاري برقم 2957، وصحيح مسلم بشرح النووي 12/223. . وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من أطاعني دخلَ الجنة ومن عصاني فقد أَبي } هو في صحيح البخاري 7280. رواه البخاري . ومعلوم أن طاعته هي فعل أمره وتجنب نهيه، والتسليم لما جاء به، والرضى به رسولا نبيا . 3- الأمر باتباعه والتأسي به : قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } . ولا شك أن محبة العبد لربه واجبة، وقد وقف حصولها وقبولها على اتباع هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وجعل من ثواب اتباعه حصول محبة الله ومغفرته للعبد، وهذا الاتباع له والتأسي به يوجب تقليده، والسير على نهجه، والاقتداء به في تقرباته، وتجنب كل ما نهى عنه، والحذر من مخالفته التي نهايتها الخروج عن التأسي به، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: { فمن رغب عن سنتي فليس مني } هو حديث أنس المشهور في الثلاثة الذي سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر، رواه البخاري 5063 ومسلم 10/175. . 4- محبته: وقد أمر الله بها في قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فوبخهم على تقديم محبة شيء من هذه الأصناف التي تميل إليها النفس طبعا ، وتؤثر الحياة لأجلها، على محبة الله ومحبة رسوله، وتوعدهم بقوله: "فتربصوا" ففي هذا أبلغ دليل على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، وقد أكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث المتفق عليه عن أنس { لا يؤمن أحدكم حتى أَكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } هو في صحيح البخاري برقم 14، ومسلم 2/5 بنحوه. ومن ثواب محبته الحشر في زمرته، كما قال عليه الصلاة والسلام: { المرء مع من أحب } متفق عليه عن أنس وغيره رواه البخاري 6168 ومسلم 16/88 عن أنس وابن مسعود رضي الله عنهما. وكفى بذلك شرفا وثوابا لهذه المحبة. ومعلوم أن المراد المحبة الصادقة التي تستلزم الاقتداء به، والتأدب بآدابه، وتقديم سنته على رضى كل أحد، وتستلزم أيضا محبة من والاه وبغض من عاداه ولو كان أقرب قريب؛ فمن استكمل ذلك استكمل المحبة، ومن نقص منه شيئا نقصت محبته له بقدر ذلك. 5- احترامه وتوقيره: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقال تعالى: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } وما ذاك إلا لما خص به من الفضل والرفعة، ففي تعزيره وتوقيره وتبجيله تعظيم لسنته، ورفع لقدرها في نفوس أتباعه، مما يعرف به لزوم اتباعه، وامتثال ما أمر به وتجنب ما نهى عنه. 6- الأمر بالتحاكم إليه، ولزوم الرضا بحكمه: قال تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أجمع العلماء على أن هذا الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته، ففي هذه الآيات أعظم برهان على تحريم مخالفته، والاستبدال بسنته، فانظر كيف حذر المخالفين له بالفتنة التي هي الشرك، أو الزيغ، وبالعذاب الأليم، وكيف أقسم على نفي الإيمان عنهم إذا لم يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم، ويسلموا لقضائه، ولا يبقى في أنفسهم حرج من قضائه، وكفى بذلك وعيدا وتهديدا لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها، تهاونا واستخفافا ، واعتاض عنها العادات والآراء. |