لقد ورد النهي عن كتابة الحديث في آثار مرفوعة وموقوفة، كما ورد الإذن بها صريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان ولبعض الأشخاص كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني غير القرآن" رواه مسلم 18/129، والدارمي 1/119، وغيرهما عن أبي سعيد. وأذن في الكتابة لعبد الله بن عمرو بن العاص كما في صحيح البخاري رقم 113 وكتب لعلي صحيفة كما عند البخاري برقم 111. ومن الخطأ حمل النهي عن الكتابة على عدم حجية الأحاديث، كما توهم ذلك بعض الزنادقة. وكذا حمله على أن السبب الوحيد قلة أدوات الكتابة والكتاب، فقد كان في الصحابة وأبنائهم الكثير ممن يحسن الكتابة كعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وغيرهم انظر فتح الباري 9/22. . وأصح ما حمل عليه النهي عن كتابة الحديث أن ذلك خاص بأول الإسلام، ليشتغلوا بحفظ القرآن ويقبلوا على دراسته من الألواح والصحف، ويكون أخذهم للحديث بالممارسة والمجالسة. أو أن النهي خاص بكتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، مخافة الاشتباه على الجهلاء به، ويكون الإذن فيها لمن عرف منه عدم الاشتباه، كعبد الله بن عمرو وعند الحاجة كأمره بالكتابة لأبي شاه وذلك في حجة الوداع لما طلب كتابة تلك الخطية كما عند البخاري رقم 112، 2434. . ولقد اشتهر أنه صلى الله عليه وسلم كتب صحائف كثيرة لبعض المعاهدين وفي بعض المناسبات، وبعث كتبا إلى رؤساء الدول في عهده يدعوهم إلى الإسلام حيث كتب إلى هرقل عظيم الروم وإلى كسرى عظيم الفرس وإلى النجاشي ملك الحبشة وإلى المقوقس ملك مصر وغيرهم وقد ذكر تلك الكتب ابن القيم في زاد المعاد 3/60 وغيره. وذلك دليل جواز الكتابة لجنس الحديث. ثم إن الصحابة عرفوا العلة في النهي، فتوقف بعضهم كما استعمل الكتابة آخرون للحاجة روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/76 بأسانيده المنع من كتابة الحديث عن زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد وعمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبي موسى وأبي هريرة ومن التابعين الشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم، ثم روى الرخصة في الكتابة أو استعمالها عن جابر وابن عمرو بن العاص وأنس وأبي أمامة وغيرهم وحصل عليه الاتفاق بعدهم. . ولما أن زال المحذور وتميز القرآن عن غيره، واشتدت الحاجة إلى الكتابة، ابتدئ في تدوين السنة، وذلك في أواخر القرن الأول بأمر عبد العزيز بن مروان ثم ابنه عمر روى ابن عبد البر في العلم 1/88، 91 عن ابن شهاب أنه أول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز. ثم اشتهرت الكتابة في القرن الثاني فكانوا يكتبون ويحدثون من كتبهم مع المحافظة عليها. إلى أن وصلت هذه الأحاديث إلى علماء أجلاء كالبخاري ومسلم وأهل السنن، فدونوها في مؤلفاتهم تدوينا عاما أو خاصا ، مع بيان صحيحها من ضعيفها ونحو ذلك. وقد وصلت إلينا تلك الدواوين بحمد الله كما كتبوها، مصونة عن التغيير والتبديل، وبهذا تحقق ضمان الله بحفظ مصادر الشريعة، وقامت حجة الله على العباد، والحمد لله رب العالمين. |