كان السلف يعتمدون الأدلة السمعية، ويرجعون إليها دائما ، ويحكمونها في الخلاف بينهم، ولا يلتفتون إلى موافقتها للعقول أو مخالفتها. ولقد أنكروا علم الكلام عند ظهوره، وحذروا منه، لما فيه من الإعراض عن الأدلة السمعية، ولما يسببه من الحيرة وكثرة التقلب. ولم أطلع للسلف على قول في حكم التعبد بخبر الواحد ولا في دلالة العقل عليه أو عدم دلالته. وهذا يدلنا منهم على أمرين: 1- أنهم لا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأخبار، بل إن صحة الخبر لديهم هي السبب الوحيد في قبوله، وتحتم اتباعه، والإنكار بشدة على من خالفه. 2- أنهم لم يتدخلوا بعقولهم في أحكام الشريعة، بل إن الدليل السمعي -ولو آحادا - هو المقدم عندهم على ما يتوهمه العقل، وما ذاك إلا لسلامة فطرهم عن الزيغ والشبه، وفي ذلك دليل على أن السمع الصحيح لا يخالف العقل الصريح أبدا أما أهل الكلام فقد ابتدعوا أدلة عقلية، وردوا لأجلها الأدلة السمعية، وعند التحقيق يعلم أن أدلتهم خيالات لا تثبت على حال، فأحدهم يجزم بأن العقل يوجب هذا، بينما الآخر يجزم بأنه يحرمه. ومثال ذلك : ما قالوه في هذا الباب فإن فيه لهم ثلاثة أقوال : القول الأول منع التعبد بخبر الواحد عقلا : وهذا قول بعض المعتزلة، كالجبائي وابن علية والأصم وجماعة من أهل الكلام. ولهم على ذلك شبه: 1- منها: أن التعبد به يؤدي إلى تحليل الحرام، وتحريم الحلال ، لإمكان كونه كذبا في الباطن، ففي العمل به مفسدة تخالف مقتضى القواعد الشرعية فلا بد أن يقيم الله على كل حكم برهانا قطعيا { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } أما أن يحيلهم على دليل ظني يجوز العقل خطأه فلا ، لما يترتب عليه من قلب الحقائق ، واستباحة المحظورات، مما هو خلاف حكمة الشارع . وهذا الدليل ليس عقليا محضا ، بل مما أخذه العقل من الشرع. فيقال: (أ) يبطل اللزوم على مذهب المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب ؛ حيث أنه لا حلال ولا حرام في نفس الأمر، وإنما ذلك يظهر بعد الاجتهاد، فعليه لا يلزم محذور إذا اعتمد المجتهد على خبر يمكن أن يكون كذبا في نفس الأمر. فإن العمدة اجتهاده ، وقد أصاب كما يصيب من خالفه باجتهاد آخر وهلم جرا. أما على مذهب الجمهور في أن المصيب واحد - فإنما يلزم تحريم الحلال وعكسه أن لو قيل بالقطع بموجبه، أما أن يقال بالظن- الذي هو ما يقدره المجتهد- مع تجويز خلافه، فإنه لا يلزم منه مخالفة حكم الله. (ب) أن إمكان كذبه يضعف بتوفر شروط قبوله المعروفة، فيكون العمل به مستندا إلى يقين أو ظن غالب. (جـ) المعارضة بما وافقوا عليه من قبول الشهادة والفتيا والحكم والظن في تحري القبلة، فإن الشهادة قد يقطع بصدقها كشهادة الأنبياء، وقد يظن كشهادة غيرهم، والكل يعمل به، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه مقطوع بصحته غالبا ، فألحق بذلك حكم سائر الحكام وفتوى المجتهدين، وكذلك القبلة يقطع بها عند معاينة الكعبة فألحق به ظنها بالاجتهاد . فهكذا يلحق بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المقطوع به خبر كل ثقة يظن صدقه ، فلا فرق بينه وبين الصور قبله. (د) وأجاب الآمدي وغيره بأن دليلهم مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله، وهو غير مسلم. ولكن هذا الجواب غير سديد، فإن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد على الصحيح، والله تعالى كتب على نفسه الرحمة، من غير أن يوجب عليه أحد شيئا ، وإنما لتمام حكمته وإحسانه بالعباد كانت أفعاله وأوامره ونواهيه في غاية المناسبة، وكان مما ينافي حكمته تكليف الخلق بما لا فائدة فيه، أو بما هو ضرر محض. 2- ومنها قولهم: يلزم منه اجتماع الضدين كما لو روي خبر في تحريم هذه العين وآخر في تحليلها، واستويا في استيفاء شروط القبول، فالعمل بهما معا محال، وبأحدهما ترجيح بلا مرجح. فيقال : سبق أن أشرنا إلى أن كل دليلين ثبتت صحتهما فوجود المعارضة بينهما نسبية غالبا وأن الأئمة تمكنوا من الجمع بين ما أوهم التعارض وتخريج كل دليل على وجه صحيح، أو جعلوه من باب التوسعة، وتجويز الأمرين معا ، أو جعلوا المتأخر ناسخا للمتقدم بعد معرفة التاريخ إلى آخر ما تقدم. 3- ومنها : لو جاز التعبد بخبر الواحد لجاز قبول خبر من ادعى النبوة بلا معجزة فيقال: سبق الجواب عن هذه الشبهة وبيان أن من ادعى النبوة جاء بأمر مستغرب ، وفيما جاء به نقل الناس عن كثير من عاداتهم إلى ما لم يألفوه، ثم ما في دعواه من إمكان كونه طالب رئاسة أو حظ لنفسه، فاحتاج إلى تأييد قوله بمعجزة، لئلا يتقول أحد على الله، وليس كذلك من نقل شرعا عن غيره مقتديا بسائر الرواة. 4- ومنها : أنه قد اتفق على عدم قبول الآحاد في الأصول، فدل على امتناعها في الفروع، فلا فرق بينهما ، فيقال: هذا الاتفاق متوهم وقد ذكرنا أن السلف لا يفرقون في قبولها بين ما يتعلق بالأصول أو بالفروع، وقد أجاب المتكلمون هنا بأنه قد اتفق على أن الأصل لا بد له من دليل قطعي، بخلاف العمل فيكتفى له بالظني، هكذا أجابوا لكن عملهم غير مطرد على ما ذكروا، ثم يطالبون بالفرق ، والصحيح هو ما أشرنا إليه من القبول في الكل. 5- ومنها قولهم : لو جاز التعبد به لجاز نقل القرآن المتعبد بتلاوته بقراءة الآحاد، وهو خلاف الإجماع ، فيقال لما كان القرآن يعتبر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لزم أن يكون مما يقطع بنقله، بخلاف الأحكام الشرعية، فتثبت بالظن الغالب . ثم إن الصحيح إن شاء الله أن القراءة إذا صح سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقت رسم المصحف قبلت، وإن لم يقرأ بها أحد من السبعة أو العشرة كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية انظر مجموع الفتاوى 13/399، 402. . |