3- قوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وأهل الذكر يعم الواحد والعدد، حيث لم يقل:سلوا عدد التواتر منهم. فيلزم الجاهل سؤال من وجده من أهل العلم. وتقوم عليه الحجة بخبر الواحد منهم. واعترض على هذا الدليل بما يأتي: (أ) أن قوله { فَاسْأَلُوا } ليست صيغة أمر. وإن سلم ذلك فلا تفيد الوجوب. فيقال: إن صيغة: افعل ونحوها. من أصرح الصيغ في الدلالة على الأمر عند المحققين من أهل الأصول. والأمر المطلق يفيد الوجوب، وإنما يصرف عنه لقرينة. (ب) أن المراد هنا الاستفتاء من أهل العلم. ونحن نقول بقبول قول المفتي. فيقال: ظاهر الآية أمر كل من جهل حكما أن يسأل أهل الذكر - وهم أهل العلم بالشرع وأدلته فيعم سؤال المجتهد لغيره، وسؤال المقلد، حيث لا دليل على التخصيص. (جـ) ظاهر الآية الأمر بالسؤال الذي يحصل منه العلم بالمسؤول عنه؛ لأنه إنما أمر بالسؤال عند عدم العلم. فالتقدير: اسألوا حتى يحصل لكم العلم بما لا تعلمونه. ولما كان خبر الواحد إنما يحصل الظن دل على أنه ليس هو المطلوب هنا وإنما المطلوب السؤال الذي يتم به العلم، وهو المتواتر. فيقال: سبق أن استدل بالآية على أن خبر الواحد يفيد العلم وحينئذ يبطل هذا الاعتراض؛ مع أن ظاهر الآية أمر كل من جهل حكما أن يسأل عنه أهل العلم الذي يعم الجزم بالمعلوم والظن الغالب. 4- قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } . والأمر للوجوب . وإذا تحمل الإنسان علما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن القيام لله والشهادة بالقسط إبلاغه والإخبار به، ووجوب ذلك عليه دليل وجوب القبول منه. قالوا: الأمر لا يفيد الوجوب، ثم إن قدر أنه يفيده لم يجب على كل أحد القيام لله والشهادة بالقسط إلا إذا كان خبره مما يجب قبوله، ولا يجب قبول خبره إلا إذا كان قائما لله شاهدا بالقسط، فيلزم الدور. فيقال: قد عرف أن مطلق الأمر للوجوب، ما لم يصرفه صارف، وأما الدور الذي زعموه فغير مسلم، فكل مؤمن مأمور بالقيام لله والشهادة بالقسط، ليحصل البلاغ، ولا يرده عدم قبول خبره؛ كما لم يرد الرسل عدم القبول منهم، قال تعالى: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } . 5- قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } فكل من أخفى شيئا من الدين مع الحاجة إليه فهو متوعد بما في الآية، ولو لم يجب العمل بخبره لم يكن في إظهاره فائدة . (أ) قالوا : لعل المراد القرآن، فهو الذي يطلق عليه اسم المنزل. فيقال: لما كانت السنة من الدين، ولها حكم القرآن في العمل أحيانا ، كان كتمانها حراما كالقرآن، فتدخل في عموم الآية. مع أن السنة قد يطلق عليها أنها منزلة، حيث إنها مما علمه الله محمدا صلى الله عليه وسلم. (ب) قالوا: إنما الوعيد على الكتمان، ولم تتعرض الآية لحكم قبوله من الآحاد، كما أن الفاسق يجب عليه البيان لما يعلمه مع أنه لا يقبل منه. فيقال : قد تقرر أن الله أوجب على أهل العلم البيان ، وأوجب على أهل الجهل السؤال، ولا شك أن الوعيد يعم من كتم العلم ولو واحدا ، وإذا تحقق تحريم الكتمان دل على أن كل من أظهر علما دينيا لزم كل من سمعه قبوله ، ولو لم يسمعه إلا من واحد، للعموم، أما الفاسق فلم يقبل خبره لفسقه ، لا لأن خبره خبر واحد، وهو مكلف قبل البيان بالتوبة، ليزول عنه المانع فيقبل خبره . (جـ) قالوا: إن المراد وجوب إظهار كل فرد ما علمه؛ لينضم خبره إلى خبر غيره ؛ فيتألف من الجميع التواتر المفيد للعلم. فيقال: لا دليل على هذا التخصيص، بل التحريم يعم من كتم علما ولو شخصا واحدا ، فبتقدير فقد العلم في البلد إلا معه يكلف بالبيان، ويلزم قبول بيانه وخبره. 6- قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } ويجوز الاكتفاء بإذن الشخص الواحد ودعوته، لعدم تعيين العدد في النص، قال الحافظ في الفتح: وهذا متفق على العمل به عند الجمهور، حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق. اهـ فتح الباري 13/240، كتاب أخبار الآحاد. . ومن تتبع الآيات وجد فيها كثيرا من هذا الضرب، وإذا كان في بعضها احتمالات فإنها بمجموعها تُقوي دلالتها، فيتحصل من الجميع دليل قطعي، كما أن خبر الواحد دلالته عندهم ظنية، فبعد توافق الآحاد تبلغ التواتر فتكون دلالتها قطعية. |