النوع الثاني :السنة النبوية وقد اشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبول خبر الواحد والعمل به في مواضع كثيرة، سيأتي لها أمثلة إن شاء الله تعالى. وقد حكى الله عن بعض الأنبياء السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد. فإن موسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء { مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } وكذا قبل خبر نصف رجل، حيث صدق بنت صاحب مدين التي قالت له: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما إبنتاه، فتزوج إحداهما بناء على خبره. وقبل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له: { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي } وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه في هذا الباب أكثر من عشرين حديثا حيث عقد في صحيحه كتابا لأخبار الآحاد وذكر فيه اثنين وعشرين حديثا من رقم 7246 حتى رقم 7267 في ستة أبواب وسيأتي ذكر بعض الأحاديث. وتوسع كثير من العلماء في سرد الأدلة من السنة. ونحن نورد هنا ما تيسر منها مع الإشارة أحيانا إلى دلالتها باختصار: 1- فمنها: حديث مالك بن الحويرث حين وفد مع بعض قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: { إذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم } متفق عليه رواه البخاري برقم 7246 ومسلم 5/174 ودلالته أنه اكتفى بأذان شخص واحد. . 2- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم } رواه البخاري وغيره رواه البخاري برقم 7247 في أخبار الآحاد حيث أمرهم بتقليد أذانه في السحور وبقاء الليل. . 3- وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } متفق عليه هو في البخاري برقم 7248. . ودلالة هذه الأحاديث في الأمر بتصديق المؤذن وهو واحد، والعمل بخبره في فعل الصلاة، والعلم بدخول وقت الصلاة، وأول وقت الإفطار والإمساك، مع أن هذه من العبادات التي تختل بتغير وقتها. ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بأذانهم في أوقات مثل هذه العبادات، وإن هذه لأوضح دليل على وجوب العمل بخبر الواحد وقد كثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا في الدلالة على تكليف الآحاد أو غيرهم : . 4- فروى الشافعي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { نضر الله عبدا سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } هو في الرسالة برقم 1102 وصححه المعلق عليه. . وقد رواه أحمد والدارمي وأهل السنن إلا النسائي عن زيد بن ثابت بنحوه تقدم في المقدمة أنه عند أحمد 4/80 والدارمي 1/75 وأبي داود 3660 والترمذي 2795 وابن ماجة 230. وورد معنى ذلك مرفوعا عن أنس وأبي سعيد وجبير بن مطعم والنعمان بن بشير وغيرهم، روى ذلك الإمام أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم كما في المسند 1/436، 437، 3/225، 4/80 وسنن الترمذي 3/372 والدارمي 1/74 والمستدرك 1/86. . ووجه دلالته أنه أمر كل عبد يسمع مقالته أن يبلغها، مع إمكان كونه غير فقيه، والعبد حقيقة للشخص الواحد، ولا يأمره إلا وخبره مما تقوم الحجة به. 5- وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه } رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم هو في رسالة الشافعي برقم، 295، 296 ومسند أحمد 6/8 وسنن أبي داود 4605 والترمذي 2811 والمستدرك 1/108. . فانظر كيف ذكره على وجه الذم، لرده أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يجده في القرآن، فمن رد خبر الواحد الثقة صدق عليه الذم الوارد في هذا الحديث. 6- ومثل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم { من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار } وهو حديث مشهور، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص بنحوه، أخرجه بعض أهل السنن والمسانيد، وذكر ابن عبد البر بعض طرقه في أول كتابه ( جامع بيان العلم ) رواه ابن ماجة 261، 266 عن أبي هريرة وأنس وأبي سعيد ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة كما في الفتح الرباني 1/161 وغيره. وترتب الوعيد على كتم العلم دليل على أن بيانه مما يجب قبوله والعمل به ولو من واحد، فإنه لو لم يقبل منه لم يكن في إظهاره فائدة، فلم يستحق هذا العقاب. ولقد اشتهر بعث النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد من صحابته، واعتماده على أخبارهم فيما يترتب على تحققها. 7- فمن ذلك : ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف . وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: { واغد يا أنيس - لرجل من أسلم إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها } فاعترفت فرجمها رواه البخاري برقم 7260 وقبله في مواضع كثيرة ورواه مسلم 11/205 وغيرهما. . فقد اعتمد صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد، وقتل نفس مسلمة. 8- ومنها: ما رواه الإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، عن { رجل من الأنصار أنه قبل - امرأته وهو صائم، فأرسل امرأته تسأل فدخلت على أم سلمة ، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فما زاده إلا شرا ، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فقال: ( ما بال هذه المرأة ) فأخبرته أم سلمة، فقال: ( ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك ؟ ) فقالت أم سلمة : قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرا ، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده } هو في مسند أحمد 5/434 والرسالة للشافعي برقم 1109 وموطأ مالك 1/273. . ففيه أن خبر أم سلمة مما يجب قبوله، وكذلك خبر امرأته وهي واحدة. 9- ومنها : ما رواه البخاري وغيره عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: { من يأتيني بخبر القوم ؟ فقال الزبير: أنا. مرتين. فقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير } هو في صحيح البخاري برقم 7261 وفي مواضع أخر بنحوه. فانظر كيف اكتفى بخبر الزبير عن الأحزاب، وهو واحد. 10- ومنها: قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض زكاتهم، فرجع وقال: إنهم منعوا الزكاة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم. وهم بغزوهم، رواه الإمام أحمد بن أبي حاتم والطبراني بإسناد حسن عن الحارث بن أبي ضرار والد جويرية أم المؤمنين وهو ممن جرت عليه القصة ذكره ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى في سورة الحجرات: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وأورد طرقه وشواهده بالأسانيد المتصلة. . وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب بعد خبر الوليد وبعث البعث إلى الحارث حتى إذا استقل البعث، وانفصل عن المدينة لقيهم الحارث قادما إلى المدينة . ورواه ابن جرير عن أم سلمة وفيه: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون. ورواه ابن جرير أيضا عن عطية العوفي عن ابن عباس وقال فيه: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد. وقد روى هذه القصة مرسلة ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك ومقاتل وغيرهم انظر طرق هذه الروايات وأسانيدها في تفسير ابن كثير وابن جرير في سورة الحجرات. . ولو لم يكن العمل بخبر الواحد جائزا لما هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولأنكره الله عليه، كما أنكر عليه عدم التثبت في خبر الفاسق. وأما رواية بعث خالد بن الوليد للتثبت من أمرهم، فإنما رويت مرسلة ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). عن قتادة ومجاهد ولعل ذلك في قصة أخرى بعد نزول الآية امتثالا للأمر بالتثبت. ولقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة، ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ، ويعتمد الناس أخبار أولئك الإفراد، من غير أن يكون تفردهم مسببا لوجود الشك في خبر أحدهم. 11- فمن ذلك: ما رواه الشافعي في الرسالة بإسناد صحيح عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: { بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد } فاتبع الناس وهو على جملة يصرخ فيهم بذلك هو في الرسالة برقم 1127 وصحح المعلق إسناده. . هو - صلى الله عليه وسلم - لا يبعث الواحد إلا وقد عرف لزوم قبول خبره فيما بلغه عنه، وإلا يكون بعثه عبثا . 12- ومثله : حديث يزيد بن شيبان قال: { كنا في موقف لنا بعرفة، بعيدا عن موقف الإمام، فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم } رواه أهل السنن الأربعة وغيرهم هو في سنن أبي داود 1919 والترمذي 884 والنسائي 2/45 وابن ماجة 3011 وحسنه الترمذي. . 13- وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران { لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين } فبعث أبا عبيدة رواه البخاري في أخبار الآحاد برقم 7255 وقبله في مواضع ورواه مسلم 15/192 في الفضائل. وهو دليل على وجوب قبول ما بلغهم عنه. 14- وروى البخاري وغيره عن سلمة بن الأكوع { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم: أذن في قومك يوم عاشوراء أنه من أكل فليتم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم } هو عند البخاري برقم 7265 في أخبار الآحاد ورواه في مواضع أخر. وبعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر سنة تسع على الحج، فأقام للناس مناسكهم نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، وبعث عليا تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم، وبلغ عنه أول سورة براءة، وبعث قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ومالك بن نويرة إلى عشائرهم، لتعليمهم الأحكام، وقبض الزكاة، وبعث معاذا وأبا موسى وعمارا وغيرهم إلى جهات متفرقة باليمن ونحو ذلك كثير، واشتهر أيضا بعثه الأمراء في السرايا والبعوث، وأمره بطاعتهم في ما يخبرون عنه. ومن أشهر ذلك كتبه التي يبعثها إلى الملوك في زمانه، التي يتولى كتابتها واحد، ويحملها شخص واحد غالبا ، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم ، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى . وذكر الشافعي أنه بعث في دهر واحد اثني عشر رسولا ، إلى اثني عشر ملكا يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا كتبه التي يبعثها إلى ولاته وعماله بأوامره وتعليماته، يكتبها واحد، ويحملها واحد، ولم يتوقف أحد منهم في قبولها، واستمر على هذا عمل المسلمين بعده إلى اليوم، من غير نكير فكان إجماعا ذكر ذلك كله الشافعي في الرسالة من رقم 1127 حتى رقم 1151 ووضح دلالة ذلك وبينها. . |