النوع الثالث إجماع سلف الأمة على قبول أخبار الآحاد : وقد نقل عن الصحابة والتابعين من الآثار الدالة على اكتفائهم بخبر الواحد ما لا يحصى إلا بكلفة، فنشير إلى طرف من ذلك. 1- ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : { بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة } انظره في البخاري في الآحاد برقم 7251 ورواه في الصلاة وغيره ورواه مسلم 5/10 في المساجد. . وقد رويت هذه القصة عن البراء وأنس وابن عباس وعمارة بن أوس وعمرو بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد وعثمان بن حنيف ومن طرق كثيرة أشار إلى أكثرها الترمذي تحت حديث البراء رقم 339 وخرجها المباركفوري في التحفة. . فانظر كيف اعتمدوا خبر هذا الشخص، وتحولوا عن قبلة كانت متحققة الثبوت عندهم، ولا شك أن قد اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينقل أنه أنكر عليهم. 2- وفي الصحيحين أيضا عن أنس قال : { كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة، وأبي بن كعب شرابا من فضيخ ، فجاءهم آت ، فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها } كما عند البخاري في أخبار الآحاد برقم 7253 وقد رواه قبل ذلك في عدة مواضع وهو عند مسلم 13/149 في الأشربة من طريق كثيرة. فقد أقدموا على إتلاف مال محترم، تصديقا لذلك المخبر، وهم من أهل القدم في الإسلام، ولم يقولوا: نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر، أو نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع قربهم منه، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت. 3- وعن أبي موسى في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحائط وقوله: { لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبو بكر فقلت: على رسلك حتى أستأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فاستأذنت له فقال: (أذن له وبشره بالجنة) ثم جاء عمر ثم عثمان فكان شأنهما كذلك } متفق عليه مطولا انظره للبخاري في الآحاد برقم 7262 وراه في المناقب وغيرها وهو عند مسلم 15/271 في الفضائل. . فقد اعتمد هؤلاء الصحابة الأجلاء خبر أبي موسى وحده في الإذن. 4- ومثله حديث عمر الطويل المتفق عليه { لما احتجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشربة له، فجاء عمر فقال للغلام: استأذن لعمر. فأذن له فدخل } هو في البخاري في الآحاد برقم 7263 مختصرا وفي النكاح برقم 5191 مطولا وهو عند مسلم 10/82 مطولا. . فقد قبل عمر خبر هذا الغلام وحده، مع أن الله نهى عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذن. 5- وفي حديث عمر المذكور أنه كان له جار من الأنصار، يتناوب معه النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غاب أحدهما أتاه الآخر بما حدث وتجدد من الوحي والأخبار، وهو ظاهر في أن كلا منهما يعتمد نقل صاحبه. 6- وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه { أن عمر رضي الله عنه كان يجعل الدية للعاقلة، ولا يورث الزوجة منها حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر } انظره في المسند 2/452، وسنن أبي داود 2927 والترمذي 2193 وابن ماجة 2/74 والرسالة 1172. . 7- وروى أحمد أيضا وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، عن ابن عباس { أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا ، فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين جارتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة، فقال عمر: لو لم نسمع به لقضينا بغيره } هو في مسند أحمد 4/79 وسنن أبي داود 4572 والنسائي 2/249 وابن ماجة 2/73 ورسالة الشافعي 1174. . 8- وهكذا رجع عمر بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه } متفق عليه رواه البخاري في الطب برقم 5729 مطولا ومسلم 14/208 في كتاب السلام. . 9- وقبل خبر عبد الرحمن أيضا في أخذ الجزية من مجوس هجر، بعد أن قال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ! رواه البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم هو عند البخاري برقم 3156 وأحمد 1/190 والدارمي 2/234 وأبي داود 3044 والترمذي 1646. . 10- وروى البخاري أيضا ، وأحمد وغيرهما ، عن ابن عمر { أن سعدا حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يمسح على الخفين ، وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال: نعم إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فلا تسأل عنه غيره } كما عند البخاري برقم 202 في الوضوء وأحمد في المسند 1/14. . 11- وروى أحمد والشافعي ومالك وأهل السنن وغيرهم حديث الفريعة بنت مالك وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: { امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي يسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه وقضى به } كما في المسند 6/370 ورسالة الشافعي 1214 والموطأ 2/106 وسنن أبي داود 2300 والترمذي 1218 والنسائي 6/199 وابن ماجة 2031. . فقد قبل عثمان رضي الله عنه خبر هذه المرأة وقضى به بين الصحابة. 12- وكذا قبل زيد بن ثابت خبر أم سليم بنت ملحان في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها وهي حائض أن تنفر وتدع طواف الوداع، بعد ما اختلف مع ابن عباس في ذلك، والخبر رواه الشافعي وأحمد والبيهقي وغيرهم انظر القصة في الرسالة للشافعي 1216 ومسند أحمد 1/226 وسنن البيهقي 5/163. . 13- وكذا رجع كثير من الصحابة إلى خبر عائشة في الاغتسال من التقاء الختانين، وقد كانوا لا يرونه. متفق عليه هو في صحيح مسلم 3/40 ولم ترد القصة في البخاري. . 14- وثبت عن ابن عمر أنه قال : كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا ، حتى زعم رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك انظر صحيح البخاري 2343، 2345، ومسلم 10/200. . فانظر كيف اعتمد خبر رافع وحده، وترك ما كان يعتقده مباحا ، تقديما لما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 15- ورجع ابن عباس إلى خبر أبي سعيد في تحريم ربا الفضل، وقد اشتهر عنه القول بإباحته انظر القصة في صحيح مسلم 11/23 بعدة روايات في بعضها التصريح بالرجوع. . 16- وهكذا عمر بن عبد العزيز لما حكم على مخلد بن خفاف أن يرد غلة ذلك العبد الذي ظهر فيه على عيب، فأخبره عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن { الخراج بالضمان } فنقض حكمه، وقدم الحديث المرفوع، وإن كان خبر واحد رواه الشافعي في الرسالة 1232 والبيهقي في السنن 5/321 والطيالسي في المنحة 1347. . وبالجملة فعمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد لا يمكن إنكاره بل إنهم يشنعون على من رده، ويغلظون عليه في الإنكار. ولم ينقل أن أحدا منهم قال : إن هذا خبر واحد يمكن عليه الخطأ، فلا تقوم به الحجة حتى يتواتر، ولو قال أحد منهم ذلك لنقل إلينا. ولا يظن أنهم قبلوها لما احتف بها من القرائن ، أو ألحقوا تلك الوقائع بغيرها على طريق القياس، أو نحو ذلك من التقديرات التي لا دليل عليها، فإنه يمكن تقدير ذلك في دلالات القرآن، والأخبار المتواترة، وذلك فيه إبطال لجميع الأدلة الشرعية. ولو كان اعتمادهم على غير هذه الأخبار فقط، أو عليها معها لنقل إلينا. بل إن مما يبطل هذه الاحتمالات تصريح بعضهم بأن اعتماده لم يكن إلا على النص كما قال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره. |