وبعد أن عرفت وجوب العمل بالحديث الصحيح أيا كان نوعه، وبطلان ما يورد أهل البدع على دلالته، فما عليك إلا أن تقول بموجبه ولو خالفه أكثر الناس، فإن عمل الأكثر ليس بحجة، ولقد كان الأئمة الأربعة رحمهم الله ينكرون على من خالف الحديث بعد صحته. وقد نقل عن كل منهم قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ونقل المزني عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد. وقال الربيع عنه: ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعته روى حديثا . فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله ؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقد اشتهر عنه رحمه الله أنه قال للإمام أحمد إذا صح عندكم حديث فأعلمونا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به، ونقل أبو يوسف أن أبا حنيفة قال: ليس لأحد أن يفتي بقولنا، ما لم يعرف من أين قلنا. وكذلك الإمام مالك صح عنه أنه قال: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح عن الإمام أحمد أنه قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. اهـ. والنقول عن الأئمة كثيرة في النهي عن تقليدهم، وأمر غيرهم بالرجوع إلى الأدلة التي يأخذون منها أسند هذه الآثار ونحوها أبو نعيم في الحلية 9/106، 170، 170 وابن الجوزي في مناقب أحمد 601 وغيرهما، وذكر بعضها ابن القيم كما في مختصر الصواعق ص 466 وغيره. . وبهذا يعرف تقديس هؤلاء الأئمة للحديث المتواتر والآحاد. ولما أن روي عنهم بعض المسائل التي لا تجتمع ظاهرا مع ما صح من الأحاديث، وكان قد قلدهم بعض من أتى بعدهم، واعتمد أقوالهم نصوصا ترد لها الأحاديث الواردة عليهم، فهنالك وضعوا قواعد وأصولا زعموا أن أئمتهم لا يقبلون ما خالفها من أخبار الآحاد، ككون الحديث فيما تعم به البلوى، أو خلاف القياس ، أو لم يعمل به راويه ونحو ذلك. وإذا كان قد روي عن الأئمة شيء من تلك القواعد فلعلهم أرادوا بها معنى صحيحا لا على الإطلاق، وعلى هذا فإن من واجب المسلم تقديم الحديث الصحيح وإن خالف مذهب إمامه ، واعتقاد أن كل عالم أو قدوة في الدين لن يجرؤ على مخالفة الحديث الصحيح إلا لمعارض راجح في نظره، ولقد بين العلماء المحققون أعذار أولئك الأئمة في تركهم العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (رفع الملام) عشرة أسباب يكون وجود أحدها عذرا لمن قام به في مخالفة الحديث. فمنها : أن لا يكون الحديث قد بلغه، فإنه لا يمكن لأحد الإحاطة بالحديث النبوي جميعه، وقد تقدم أمثلة لما خفي على بعض كبار الصحابة . ومنها : أن يكون الحديث قد بلغه ولكن لم يثبت عنده، أو اعتقد ضعفه خطأ. أو نسيه. أو لم يتفطن لدلالته عند الفتيا. أو اعتقد أن لا دلالة فيه. أو اعتقد أنه معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما خالفه فيه غيره. وإذا كان الإمام معذورا عن اجتهاده الذي أخطأ فيه، لم يعذر من تبين له الدليل فأصر على مخالفته، وأخذ يقدر تقديرات متكلفة في رده، فإن عجز قال: لو كان صحيحا لما خالفه إمامنا الذي قد اتفق على أهليته، ونحو ذلك من الأعذار . وكل هذا محافظة على ما روي عن هؤلاء الأئمة الذين تفانوا في تقليدهم، مع أن تلك الروايات المنقولة عن الأئمة مما فيه مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة مشكوك في صحتها عنهم، لكونها نقلت آحادا ، وبغير أسانيد متصلة غالبا . ثم بتقدير صحتها عنهم، فقد يتطرق إليها التغيير من النقلة مما تنقلب به حقيقتها، وقد يحتف بالفتيا من القرائن ومقتضيات الأحوال ما يحمل المفتي على التساهل مما يخفى على من بعده، ثم بتقدير عدم ذلك كله فهم غير معصومين عن الخطأ، وقد نهوا من بعدهم عن تقليدهم . وبهذا يتضح إجماع الأئمة المعتبرين على وجوب اتباع الأحاديث ولو كانت آحادا بعد ثبوتها، وأنه مما يجب تقديمها على قول كل أحد أيا كانت منزلته، وإلى هنا نقف، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. |