السؤال: من مات بعد مجيء الإسلام، ولكن لم تصله الرسالة أو وصلته ولكن ناقصة أو محرّفة -أي لم يصله الدين الصحيح- فهل يعتبر من أهل الفترة؟ الجواب: لا شك أن نوع الإنسان مكلف ومأمور ومنهي، وعليه واجبات لربه، وقد خص الله نوع البشر بتكاليف حيث فضَّله بالعقل والتمييز، فمتى تم عقله وجبت عليه العبادات والفرائض الدينية، ووجب عليه ترك المحرمات، فإذا جهلها لزمه البحث والسؤال عما خُلِقَ له، فمتى فرط مع قدرته اعْتُبِرَ ملوما. ولا شك أنه يوجد في الفترات من يجهل الإسلام، ولم يصل إليه عنه خبر، وكذا من يصل إليه خبر الإسلام مشوها محرفا، أو ناقصا، ولا يستطيع الوصول إلى من يعرِّفه الإسلام والتوحيد الصحيح، فمثل هذا قد يُعْذَر ويُلْحَق بأهل الفترات، ولكن الغالب أنه يقلد من قبله، ويتبع من يصده عن الهدى، فيكون معه في العذاب، كما قال تعالى: { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } الآية، فأخراهم الأتباع، والأتباع، الذين أضلهم من قبلهم. وقال تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } فالذين اتبعوا هم الأبناء والمتأخرون الذين أضلهم من قبلهم، أخبر بأنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. وقال تعالى: { فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } فالضعفاء هم الأولاد والأحفاد الذين قلدوا من قبلهم فلا ينجون من العذاب، وقال تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } عذبهم باتباعهم أكابرهم على الضلال، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } إلى قوله عنهم: { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } . وقال تعالى عنهم وهم في النار: { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ } وقال تعالى: { لِيَحْمَلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وفي الحديث: { من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا } أخرجه مسلم برقم (2674)، في العلم، باب: "من سن سنة حسنة... ". من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وتمامه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". والله أعلم، وكل هذه الأدلة ونحوها كثير واضحة في أن الأتباع يعذبون مع أكابرهم ومن قبلهم ممن دعاهم إلى الضلال وأوقعهم في الكفر والشرك، وتدل على أن في إمكانهم اتِّباع الحق الذي كان موجودا بعد الأنبياء والرسل، لكن غيَّره من أغواهم الشيطان. وقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو أول من غيّر دين إبراهيم } أخرجه البخاري برقم (3520) في المناقب، باب: "قصة خزاعة". وأخرجه أيضا برقم (3521)، و (4623، 4624)، ومسلم برقم (2856) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: "النار يدخلها الجبارون... " من حديث أبي هريرة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما. وفي حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر } أخرجه أحمد في مسنده: (1/446). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال أحمد شاكر في تحقيقه على المسند (4258): إسناده ضعيف، ثم قال: ومتن الحديث صحيح رواه أحمد والبخاري ومسلم" ثم قال أحمد شاكر: السوائب: قال ابن الأثير: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من مرض أو غير ذلك قال: ناقتي سائبة، فلا تمنع من ماء ولا مرعى، ولا تحلب ولا تركب، وكان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة: فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب، وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وهي التي نهى الله عنها في قوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) [سورة المائدة، الآية: 103]. ومثل هذا ما يصنع الجهال الضالون في عصرنا من تسييب ثور أو بقرة أو بهيمة نذرا لمن يدعون لهم الولاية، كأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، فارتكسوا إلى شرك الجاهلية، نسأل الله العافية" أ. هـ. . قال ابن كثير عند قوله تعالى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } بعد أن ساق أحاديث في معناها، فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، إلى آخر كلامه رحمه الله، تفسير القرآن العظيم لابن كثير. (2/103). عند تفسير الآية: 103 من سورة المائدة. وقد دل الحديث على أن العرب كانوا على ملة إبراهيم و إسماعيل ثم حدث بعد ذلك التغيير وعبادة الأصنام بسبب عمرو بن لحي وغيره. ولا شك أن العرب يدركون أن دينهم باطل، كما انتبه لذلك بعضهم كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ورقة بن نوفل هو ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد ذكره في حديث بدء الوحي الطويل الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت عائشة: "... فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع هذا من أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ " فقال: نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي". أخرجه البخاري رقم (3) في بدء الوحي باب: "3". ففي تراجمهم وأخبارهم ما يدل على أنهم أنكروا ما عليه قومهم، وأهل بلادهم من الشرك وعبادة الأصنام، فمنهم من ترك عبادة غير الله كزيد بن عمرو الذي قال في حقِّة النبي - صلى الله عليه وسلم - { إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ، وقال: رأيته في الجنة يسحب ذيولا } هذه الآثار وغيرها الواردة في زيد بن عمرو ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية:- (2/221-226). وكذا ما ذكر في خطبة قس بن ساعدة التي نبه فيها على الدين الصحيح، واستدل بالآيات والمخلوقات على وحدانية الله تعالى، إلى غير ذلك. فأما غيرهم فقد ورد في حديث عياض بن حمار { أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب } رواه مسلم أخرجه مسلم برقم (2865) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: "الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار". وهو دليل على أن هناك بقايا قد تمسكوا بالدين الموروث عن أهل الكتاب، وكما تدل عليه قصة سلمان الفارسي حيث تنقل من عالم إلى عالم، يأخذ عنه التوحيد والعبادة، إلى أن هاجر إلى المدينة قصة سلمان الفارسي ذكرها بطولها الذهبي في سير أعلام النبلاء: (1/505). والله أعلم. |