وهكذا بقيَّةُ هذه العصور، وهذه القرون؛ كان السائد فيها والمنتشر هو المذهب الأشعري، ومعروف أن الأشعري هو أبو الحسن من ذرية أبي موسى ؛ عالم مشهور ظهر في القرن الثالث، كان في أول أمره معتزليًّا على طريقة أبي هاشم الجبائي وأبي الهذيل العلاف ونحوهما من المعتزلة، ثم نزل عن هذه العقيدة لمّا ظهر له تهافتها، وانتحل مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب وكان ابن كلاب هذا عالمًا جدليًّا؛ سمي بذلك لأنه إذا احتج كانت حجته قوية بمنزلة كلاب الصناع الحدادين التي تمسك الحديد، أي إنه في قوة جدله واحتجاجه منزلة هذا الكلاب. ومع ذلك فإنه قد تأوَّل كثيرًا من الصفات ولم يثبت إلا بعضها، فانتحل أبو الحسن الأشعري عقيدته في الإقرار بسبع صفات، وإنكار ما سواها، وألف كتبًا كثيرة على هذا المذهب، وقضى عليها أكثر عمره، أي: نحو أربعين سنة، وهو يؤلف على هذا المذهب، حتى اشتهرت كتبه وتلقاها الجم الكثير والجمع الغفير. وفي آخر حياة أبي الحسن مَنّ الله عليه ، وقرأ بعض كتب السلف، فرجع عما كان يعتقده إلى مذهب السلف، وألف رسالته المطبوعة التي سماها ( الإبانة في أصول الديانة ) رسالة مختصرة ألفها على مذهب السلف، وألف أيضا كتابه ( مقالات الإسلاميين ) الذي جعله في الفرق. ولمّا أتى على مذهب أهل السنة ذكره صريحًا، وذكر عقيدتهم التي يمكن القول أنه نقلها عن كتب الإمام أحمد أو غيره، مما يدل على أنه انتحل عقيدة أهل السنة أخيرًا، فمقالته عن أهل السنة تدل على أنه منهم بدرجة أنه صرح بقوله: " وبما قاله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل نضّر الله وجهه، وجُملة مقالنا أنا نقول كذا وكذا "، وقد نقله أيضًا ابن القيم في أول كتابه ( حادي الأرواح ) وفي بعض كتبه. وبكل حال؛ هذا المذهب الذي عليه الآن الأشاعرة ليس هو حقًّا مذهب الأشعري؛ لأن الأشعري قد رجع عنه، إنما هو مذهب الكلابية. هذا بعض ما كان عليه هذا المعتقد في هذه الأزمنة، والحنابلة طوال هذه الأزمنة الغالب أنهم يتتلمذون على أشاعرة، ومنهم الإمام ابن قدامة حيث نجد أن تلامذته ومشايخه وزملاءه في العقيدة من شافعية، ومن حنفية، ومن مالكية على المذهب الأشعري. ولكن لا بد أنه وصلت إليه كتب الإمام أحمد وكذلك كتب السلف، فلم يوافق أهل زمانه بل وافق شيخه، ووافق مذهبه الذي هو مذهب الإمام أحمد فألف كتبا كثيرة فيما يتعلق بالعقيدة، منها رسالته التي في إثبات صفة العلو؛ صريحة في أنه يرى إثبات هذه الصفة لله تعالى، ولو أنكرها من أنكرها. ومنها رسالة في ذم التأويل الذي ابتلي به زملاؤه وأساتذته من الأشاعرة ونحوهم. ومنها هذه الرسالة التي نحن بصددها: ( لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد ) سماها " لمعة " لأنها ذات أدلة صحيحة صريحة مضيئة تلمع لمعانًا كلمعان السرج القوية، وكلمعان النجوم في الليلة المظلمة، يعني: أنها ذات أدلة واضحة وذات دلالة لا خفاء فيها في الاعتقاد. ( لمعة الاعتقاد ) أي: أدلة الاعتقاد التي هي صحيحة ذات لمعان وضياء لا يحتمل الخفاء، ولا يجوز أن يخفي أو تخفى دلالته إلا على عُمي البصائر. فهذا هو قصده، ولكن إذا قرأتها تجد أنه - رحمه الله - لم يجرؤ أن يفصح بموجب الأدلة وبدلالتها بل هو يذكر الأدلة، ويورد بعض المعاني، حيث إن أهل زمانه لا يحتملون الإفصاح، وإلا فهو قد أفصح في كتابه ( العلو ) بإثبات صفة العلو ونحو ذلك، ولكن يخشى أن يشنع عليه أهل زمانه بأنه مشبِّه، وبأنه ممثِّل، فألفها واقتصر على ذكر الأدلة، ولكنه مع ذلك ذكر أدلة صريحة واضحة الدلالة لا تحتمل تأويلاً، وقد أبطل التأويل في رسالته الأخرى، وكذلك أيضًا تتبع عقيدة أهل السنة في الصفات، والإيمان، والقدر، والصحابة، وفي إثبات الرؤية, وغير ذلك مما هو من أصل العقيدة، مما يدل على أنه - رحمه الله - استوفى عقيدة أهل السنة. وقد شُرحت هذه العقيدة من بعض المشايخ المتأخرين، وقد كَتْبتُ عليها شرحًا مختصرًا، وهو التعليقات التي كتبناها عليها، وكنت أمليتها في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف على طلاب معهد إمام الدعوة لما قمت بتدريسها في تلك السنة وفي السنة التي قبلها، وكانوا من طلاب المتوسطة، والغالب أنهم لا يتحملون الإطالة، فأمليتها عليهم كمرجع لهم ليكون موضحًا لدلالتها ونحو ذلك، ثم لم يقدر لي أن أراجعها طوال هذه السنين، وأخذها بعض الأخوة وطبعها ووقع فيها بعض الأخطاء، وبعض ما يحتاج إلى تنبيه. |