وقوله: ( وقد أُمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم، وحُذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في لزوم السنة برقم (4607). والترمذى في كتاب العلم - باب ما جاء في الأخذ بالسنه واجتناب البدعة برقم (2676). وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهدين برقم (42، 43) والإمام أحمد في مسنده (4/126، 127). وشرحه ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم برقم (28). . ) شرح: الضمائر في ( آثارهم، ومنارهم ) للأئمة المهتدين أئمة الأمة، واحدهم إمام، يعني: قدوة في الدين كما حكى الله تعالى عنهم: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } ( الفرقان:74 ) أي: قدوة وأسوة، وقد أجاب الله دعوتهم - يعني: صالحي الأمة - فصاروا أئمة يقتدى بهم. ( وآثارهم ) ليس المراد مواطئ الأقدام، وإنما المراد ما نُقل عنهم، أي: ما أثر عنهم، الآثار: في الأصل هي بقايا الأقدام، أو مواطئ الأقدام، وتطلق على بقايا العلم كما في قوله تعالى: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } ( الأحقاف:4 ) يعني: بقية، ويقول الشاعر: تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار يريد بالآثار المعلومات التي حفظت عنهم، ونقلت عنهم، فأمرنا بتقفي آثارهم يعني باتباعها؛ لأنهم اقتفوا أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم. وأُمرنا بأن نستنير بمنارهم، وأصل المنار العَلم الكبير، أو النور الظاهر، ولكن هنا يطلق على علومهم التي هي نيرة مضيئة ساطعة يظهر لمن تأملها وضوحها، أمرنا بأن نسير على ذلك المنار، وأن ننهج ذلك المنهج حتى نكون بذلك معهم نسير كما يسيرون ونقف كما يقفون. الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي مر بنا، وهو الحديث المشهور الذي رواه العرباض بن سارية وفيه: { وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } . وقد شرح هذا الحديث ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، وذكر جملة من المواعظ التي نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم. وقد أجمل الصحابي - رضي الله عنه - في هذا الحديث تلك الموعظة، فكأنهم استشعروا أنها توصية أو أنها توديع، فلذلك قالوا: ( موعظة مودع ) كأنك تودعنا، ويكون ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نطيل فيما يتعلق بالحديث. ولكن يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: { عليكم بسُنَّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي } هذا حث على التمسك بها، فإن كلمة " عليكم " أمر كقوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ( المائدة:105 ) فمعناه: الزموا سُنتي وسيروا عليها، وتمسكوا بها، وانهجوا نهجها، واعملوا بها حسب استطاعتكم، هكذا ذكروا أن هذه اللفظة: ( عليكم بكذا ) تقتضي الأمر، أو الإلزام أو التأكيد فأنت إذا قلت مثلا: عليك بقراءة القرآن فإنك تحث عليها، أو تنهى عن شيء تقول مثلا: عليك بالبعد عن الفواحش، فكلمة ( عليك بكذا ) تقتضي الأمر، وكلمة ( إياك وكذا ) تقتضي الزجر. واقتصر على ( إياكم ومحدثات الأمور ) دون أن ينهى عنها، فلم يقل: اتركوها، ابتعدوا عنها؛ لأن كلمة ( إياكم ومحدثات الأمور ) أبلغ مِن ( اتركوها )، وإذا قلت مثلا: إياك وصاحب السوء! إياك وقرين السوء! إياك وجلساء السوء، معناه: احذرهم وابتعد عنهم، فإياكم ومحدثات الأمور، أي: ابتعدوا عنها. وهنا أيضًا من التأكيد على السنة قوله: ( عضوا عليها بالنواجذ ) بعد قوله: ( تمسكوا بها )، وهذا كله حث على العمل بها، فإن التمسك في الأصل الإمساك باليدين، وقد ينفلت منك الشيء الذي أمسكته بيديك، فتحتاج إلى زيادة توثق، وليس عندك إلا أسنانك بل أقاصي أسنانك، وهي النواجذ ( عضوا عليها بالنواجذ ) أي: مع تمسسككم بها باليدين زيدوا على ذلك العض عليها بأقاصي الأسنان، ليكون ذلك أقرب إلى الثبات عليها، وكأنه استشعر أن هناك من يزعزعك عن هذه السنة، ويسعى في تفلتك منها، ويخذلك لكي تتركها وتتخلى عنها؛ من دعاة السوء والباطل وأهل الشبهات والتشكيكات ونحوهم، فكأنه لما علم كثرة الفتن التي توهن التمسك بالسنة أمر بشدها بقوة، وأمر بإمساكها إمساكًا قويًّا. والسنة في الأصل: هي الطريقة التي يسار عليها، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الشريعة التي بلغها، وتطلق على أقواله وأفعاله وتقريراته، وتطلق على الشريعة التي جاء بها على أنها من دينه الذي أُرسل به، وتطلق على الأحاديث التي هي موضحة للقرآن، فيقال: القرآن هو كتاب الله، والسنة هي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الأصل أن السنة هنا هي الشريعة التي كان عليها.. ( عليكم بسُنَّتِي ) يعني: ما أنا عليه وما أعمله، وما أقوله، وما بلغتكم به من هذه الشريعة، سواء في الاعتقادات أو في الأعمال، كل ذلك من السنة فسيروا على نهجه، واعملوا بما يعمل به، وبذلك تصلون إلى سبيل النجاة. والخلفاء الراشدون معروفون ، وسُموا بذلك لأنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خلفوه في الولاية، وفي التبليغ، وفي الأعمال، فبلغوا ما بلغ - رضي الله عنهم - وساروا على نهجه وألزموا أنفسهم أن لا يتركوا شيئًا مما كان يعمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عملوه. التزم بذلك أولهم الذي أطلق عليه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق الصحابة على تلقيبه بهذا ( خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وقد وافقوا على ذلك، ولم يخالف في زمنه أحد يقول: إنه لا يستحق هذا الاسم، بل المسلمون على وجه الأرض اتفقوا على أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه و سلم استخلفه إما بالصراحة، وإما بالإشارة. والخلفاء الراشدون خلافتهم ثلاثون سنة، ورد في حديث سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون مُلكًا } رواه الترمذي في الفتن برقم (2326) وقال: هذا حديث حسن، وأبو داود في السنه برقم (4633)، والإمام أحمد في مسنده (5/221). وفي حديث آخر { تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة } رواه أبو داود في الفتن والملاحم برقم (4246). ولعله إشارة إلى ( مقتل عثمان رضي الله عنه )، وما حصل بعده من الفتن. فنعرف من هذا الحديث أن الخلفاء الراشدين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: خلفاء ووصفهم بثلاث صفات: الصفة الأولى: الخلافة،أي: أنهم خَلَفٌ عنه. الصفة الثانية: الرُّشد. الصفة الثالثة: الهداية. وكفى بها تزكية لهم، وحثًّا على السير على نهجهم، وشهادة بأنهم أهل حق وصواب، وأن الذين يطعنون فيهم قد خالفوا العقل والنقل، وعاندوا في ترك ما هو أشهر من نار على علم، من السنة التي جاءت في مدحهم وتزكيتهم، مع هذه التزكية من النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم خلفاء ، فتجدون الرافضة يسبّونهم ويقذعون في سبّهم، وبالأخص الثلاثة: أبا بكر وعمر وعثمان، ويشتمونهم ويدعون أنهم مغتصبون للخلافة، وعلى هذا لا يكون لهذا الحديث -عندهم- فائدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!. وهذا الحديث - أيضًا - إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك محدثات، والمحدثات هي المبتدعات، فحذر منها، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، ويراد بها ما يضاف إلى الشريعة من الأقوال والأفعال والعقائد، وأنه حادث بعد أن لم يكن، وأنه ضلال ( كل بدعة ضلالة )، والضلال: هو الضياع، الضال: هو التائه الضائع الذي ليس على هدى، وليس على بيان. وتلك البدع والمحدثات كثيرة، ولكن المهم منها ما يتعلق بالعقيدة؛ فإن من عقيدة المسلمين - مثلا - أن الرب - سبحانه وتعالى - موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حدثت بدعة من فئة تنكر ذلك، وسموا معطلة، فهذه بدعة ضالة. ومن عقيدة المسلمين أن الإنسان ينسب إليه عمله وليس بمجبور، ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الله لا يقدر على أفعال العباد: وهذه بدعة ضلال، ومن عقيدة المسلمين أن الإنسان ينسب إليه عمله، ثم حدثت بدعة فيها: أن الإنسان ليس له اختيار، وأنه مجبور على فعله، وهذا بدعة ضلال. وهكذا بقية البدع كبدعة الخوارج، وبدعة المعتزلة، وبدعة التكفير والتفسيق، وما أشبه ذلك، كلها من البدع التي أخبر بها في هذا الحديث ( إياكم ومحدثات الأمور )، وليس المقام مقام الكلام على تفنيد البدع، فهي مشهورة في كتب العلماء رحمهم الله. |