قوله تعالى الرحمن على العرش استوى

  قوله: (  ومن ذلك قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ( طه:5 ) وقوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ( الملك:16 ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: { ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك } رواه أبو داود في الطب برقم (3886)، والإمام أحمد في مسنده (6/21). { وقال للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء, قال: أعتقها فإنها مؤمنة } رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (537)، ورواه الإمام مالك في العتاقة والولاء برقم (8)، والإمام أحمد في مسنده (5/447، 448). رواه مسلم ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة . ) شرح: هذا ابتداء كلام المصنف في صفة العلو، وهي من الصفات الذاتية التي كثر فيها النزاع، وكثر فيها المخالف، وطال فيها الكلام والجدال بين أهل السنة والمبتدعة، وأنكرها أغلب الأشاعرة، والمعتزلة، وغالب الفرق الضالة، وما ذاك إلا أن إثبات صفة العلو في زعمهم يستلزم التحديد، أو التجسيم، ويستلزم التحيز، وهم يستعظمون أن يكون الله في حيز، أو في جهة، أو أن يكون الرب موصوفًا بأنه في هذه الجهة، يخيل إليهم أنه إذا وصف بذلك فهو محصور ، وأن الجهة تحويه ، أو نحو ذلك . ونحن نقول : إنه أثبت لنفسه هذه الصفة، ولا يلزم من ذلك ما تخيلوه، بل هو فوق العباد كلهم، ومع ذلك لا تحويه الجهة التي يشار إليها ، وليس هناك محذور من إثبات هذه الجهة، أو هذه الصفة. الدليل الأول: قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ذكر العلماء أن صفة العلو دل عليها العقل، وصفة الاستواء دل عليها السمع، فالعقل والفطرة يضطران كل عاقل أن يطلب ربه من فوقه، إذا دعا الله - تعالى - فإنه يجد من قلبه ارتفاعًا ونظرًا إلى العلو ولا يلتفت يمنة ويسرة، ولا يطلب عن يمينه ولا عن يساره، ولا تحت ولا أمام ولا خلف، بل فطرته وعقله تضطره إلى أن يرفع يديه، ويرفع نظره، ويرفع قلبه، ويستحضر أن ربه فوقه، فهذه الفطرة فطرة عقلية لا يستطيع أحد أن يجحدها، بل ذكروا أنها - أيضًا - في البهائم؛ إذا أجدبت الأرض فإنها ترفع رءوسها إلى السماء تستقي - كما قاله بعضهم - بل إنها فطرة كذلك في الجاهليين - كما ذكر ذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية - قال : إنها مقالة معروفة حتى عند الجاهلية في قول بعضهم: ( إذا كان ربي في السماء قضاها ), وبكل حال فصفة العلو صفة ذاتية، ثم هي أيضًا صفة ثابتة أدلتها متواترة لا مجال لإنكارها إلا مع المكابرة والمعاندة، وقد ذكر العلماء أن الأدلة عليها أنواع كثيرة، وبعض الأنواع أفراده قد تصل إلى عشرين دليلا أو أكثر، وقد يصل مجموع الأفراد إلى ألف دليل مما يكون سببًا في الاضطرار إلى الإقرار بهذه الصفة، وقد حصرها ابن القيم في واحد وعشرين نوعًا في منظومته النونية الكافية الشافية، ولما قسمها إلى واحد وعشرين نوعًا بدأ بآيات الاستواء, وآيات الاستواء وردت في سبعة مواضع: في سورة الأعراف ، ويونس ، والرعد، وطه، والسجدة، والفرقان، وفي سورة الحديد، كلها ذكر فيها الاستواء، وخص الاستواء بالعرش , وقد ذكر ابن القيم أن هذا إجماع من العلماء من أهل السنة - قال في النونية في الدليل السادس عشر: هذا وسادس عشرها إجماع أهل  العلم، أعني حجة الأزمـان من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وشيعة الرحمن لا عبرةً بمخالف لهـم ولـو       كانوا عديد الشاء والبعـران  ثم ذكر تفسيرهم لآيات الاستواء بقوله: ولهم عبارات عليها أربـــع قـد حصلت للفارس الطعان وهي استقر، وقد علا، وكذلك  ارتفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع  وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيــره أدرى من الجهمي بالقـرآن والأشعري يقول تفسير استوى  بحقيقة استولى من البهتان فذكر أنهم فسروا الاستواء، ثم المشهور عندهم، والكثير منهم يقولون: استوى استواءً يليق بجلاله، ولكن لما كان الاستواء له معان فإنهم فسروه وسيأتي قول الإمام مالك الاستواء معلوم - وإذا كان معلوما فإنه فصيح وبلغة فصيحة، ولا بد أنه يفسر، ولا بد أنه يترجم من لغة إلى أخرى ، ولا بد أن يكون له معنى، فلذلك فسروه بأربع تفسيرات: التفسير الأول: استوى : استقر ، وذلك مشهور عنهم ، ومع ذلك فالنفاة قد أخذوا يوردون عليه إيرادات وحشية فرضية؛ أوردها ابن خطيب الري الذي هو الرازي صاحب ( التفسير الكبير )، عندما أتى على هذه الآية { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ( الأعراف:54 ) قال: إن هناك من فسره بالاستقرار وزيّفه بوجوه ، ثم أطال في ذكرها، وكذلك صاحب الكشاف الذي هو الزمخشري ونحوهما من المعتزلة والأشاعرة، ولكن لا عبرة في تزييفهم، فإن تلك التزييفات التي زيفوه بها، والتي طعنوا فيه بها ، كلها تخيلات وعقليات لا يلتفت إليها مع وجود النص، ومع الذي تؤيده اللغة الفصحى، وإذا قلنا: استوى ، واستقر فلا محذور في ذلك، فالله - تعالى - مستقر على عرشه، ولكن لا يلزم من ذلك محذور. والتفسير الثاني: هو الذي يذكره ابن جرير وابن كثير أيضا عند تفسير الاستواء، يقول: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي: علا ، هكذا يقول، وهو صريح في العلو الذي هو العلو الحقيقي. التفسير الثالث: الارتفاع؛ { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي: ارتفع. التفسيرالرابع: الصُعود؛ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي: صعد، وذكر ابن القيم أن أبا عبيدة يختار هذا القول، وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى الشيباني وهو من علماء اللغة، فسر ( استوى ) بمعنى صعد، وذكروا عنه أنه نقل عن بعض فصحاء العرب أنه طرق عليه الباب بعض أصحابه، وكان في علية مرتفعًا فقال لهم: استووا ، يعني: ارتفعوا، فكأنه يقول: إن الاستواء بمعنى الصعود، ومعلوم أيضًا أن الكلمة وردت بعدة عبارات, فوردت في القرآن غير مقيدة بحرف، قال تعالى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } ( القصص:14 ) لم يكن بعدها حرف ، فتفسر هنا بمعنى الكمال يعني كمل، كما وردت مقيدة بإلى ، ومقيدة بعلى؛ قال تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } ( فصلت:11 ) { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ } ( البقرة:29 ) هنا قيدت بإلى، وتفسر أيضًا بمعنى ارتفع إليها, وأما إذا قيدت بعلى فلا خلاف أنها بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } ( هود:44 ) يعني ارتفعت عليه واستقرت ، وهو جبل رفيع لما نضب الماء استوت السفينة على ذلك الجبل، فهاهنا استقرت وصارت مرتفعة فوقه، وكذلك قوله تعالى: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } ( الزخرف:13 ) وكذلك قوله تعالى: { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } ( الفتح:29 ) يعني: ارتفع السنبل على سوقه، فعرفنا أن هذا دليل واضح على أنها إذا قيدت بعلى ؛ فهي دالة على الارتفاع، إذًا فهي دليل واضح على أن الله فوق العرش كما وصف نفسه.