الدليل الثاني : قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ( الملك:16 ) { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } ( الملك:17 ) الله تعالى قطع الكلام عما بعده في قوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } هذا وقف مطلق ، { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } هذا وقف جائز { أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ( الملك:17 ) ولا شك أن هذا دليل واضح على إثبات العلو و( في السماء ) يفسرونها بتفسيرين: التفسير الأول: أن تكون ( في ) بمعنى: على، وهذا مشهور في اللغة كما في قوله تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } ( المائدة:26 ) يعني: على الأرض ، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } ( غافر:82 ) { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } ( النمل:69 ) ليس المراد في جوفها بل المراد عليها، وكذلك قوله عن فرعون { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } ( طه:71 ) ليس المراد أنه ينحت لهم ويدخلهم في الجذوع، بل المراد أنه يصلبهم على جذوع النخل، فدل على أن ( في ) تأتي بمعنى على: { فِي السَّمَاءِ } ( الملك:17 ) يعني: على السماء. التفسير الثاني: أن السماء بمعنى العلو، وأن كل ما ارتفع فإنه سماء ، يقولون : سما فلان يعني ارتفع ، سما هذا البناء ارتفع، هذا بناء سامٍ، أي: مرتفع ، هذا جبل سامٍ، أي: مرتفع ، فالسمو: بمعنى الارتفاع , فإذا قيل: ( من في السماء) أي: في جهة العلو التي لا يعلم نهايتها وقدرها إلا هو سبحانه -فإن قيل فيها دليل على الحصر؟ -فالجواب ليس معنى ( في السماء ) أن السماء تحصره، أو تحويه - تعالى الله - بل هو فوقها كما يشاء, وإذا استدلوا بقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } ( الزخرف:84 ) وقالوا: هذا دليل على أنه في الأرض كما أنه في المساء, فالجواب عن هذه الآية، وعن الآية التي في سورة الأنعام { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ( الأنعام:3 ) أن المراد: الإله في السماوات والإله في الأرض ؛ بمعنى المألوه الذي تألهه القلوب ، والذي يستحق أن يكون إلهًا معبودًا وحده ، وذلك لأنه لم يقف عند ( السماء )، بل وصلها ، ولم يقل ( وهو الله في السماء ) ، وهو الذي في السماء وفي الأرض، بل قال : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } ( الزخرف:84 ) يعني : إله في السماء، وإله في الأرض , ويمثل بعضهم ذلك بما إذا قلت مثلا : فلان أمير في العراق وأمير في الشام مع أنه بأحدهما ، والمعنى: أن إمارته عامة لهذه البلاد، فالله - تعالى - ألوهيته عامة لأهل السماوات والأرض ولما شاء الله ، هذا دليلُ إثبات أنه في السماء, كما ورد أيضا في الأحاديث مثل حديث رقية المريض ، وهو حديث مشهور رواه أبو داود وغيره، وإن كان في سنده مقال، ولكن شيخ الإسلام يكثر الاستدلال به مما يدل على أن المقال لا يقدح فيه، وفيه { إذا مرض أحدكم، أو مرض أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء؛ فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع } رواه أبو داود في الطب برقم (3886)، والإمام أحمد في مسنده (6/21) , والشاهد قوله: " ربنا الله الذي في السماء " ، ولم يقل في السماء والأرض، ولم يقل: ( ملكك ) كما يعبرون عنه، أو ( في السماء سلطانك ) كما تقوله النفاة ، أو ( في السماء أمره ) كما يقولونه ، والأحاديث في هذا كثيرة, ومثله قصة الجارية { جاء رجل وقال يا رسول الله: إن علي عتق رقبة، وإن عندي جارية أفأعتقها؟ فقال: ائت بها. } الحديث رواه مسلم في المساجد برقم (537). فلما جاء بها امتحنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل هي مؤمنة؟ لأن من شرط العتق أن يكون العتيق مؤمنا لقوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ( النساء:92 ) فأول شيء بدأها بقوله: " أين الله "؟ فقالت: في السماء ، إما أن ذلك فطرة، وإما أن ذلك عن علم تلقته وتعلمته، قال: " من أنا "؟ قالت: أنت رسول الله ، فقال: " أعتقها فإنها مؤمنة " , زكاها وشهد لها بالإيمان لما اعترفت بأن الله في السماء، فدل على أنه لا يكمل الإيمان إلا بهذا الشرط؛ وهو الاعتقاد أن الله في السماء، ويفيد أن من اعتقد غير ذلك فإنه ناقص الإيمان, ومثل هذا أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: { ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } رواه الترمذي في البر برقم (1989) وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبو داود في الأدب (4931) بنحوه. أي: ربكم الذي في السماء، وقال صلى الله عليه وسلم: { ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً } رواه البخاري في المغازي برقم (4351). والأحاديث كثيرة ، والحاصل أن هذا دليل على إثبات العلو، ومحمله كما قلنا. |